جميع الشرائع السماوية أثنت على الاقتصاد واعتبرته فضيلة من فضائل الإنسانية الجليلة، والاقتصاد مركّب من أمرين بذل وإمساك.
والاقتصاد هو التوسط في الإنفاق بحيث لا نبسط الميزانية كل البسط حتى لا يبقى فيها شيء، كما لا نقبضها كل القبض بحيث لا نُنفق منها شيئاً... بل ينفق الإنسان من ماله على حسب حاله (مِدْ ريولك قد لحافك)، ويقدم الأهم على المُهم، فيدفع الضرورة ويُقيم البنية التحتية على قدر ما يناسب درجة غناه وفقره مع الادخار والاحتفاظ بشيء من الكسب يعدّها للعوارض والطوارئ غير المنتظرة التي قلما ينجو منها العباد والبلاد، خصوصاً إذا دهمته بغتة من حيث لا يشعر.
فإذا جمع الإنسان بين الإمساك عما لا يلزمه - غير الضروري - والبذل في ما هو أحوج إليه فقد حاز فضيلة التدبير الذي هو نصف المعيشة، ومعناها أن معيشة البلاد والعباد تقوم باجتماع أمرين اثنين، وهما الكسب والمعاش والاقتصاد في إنفاقه، فمَنْ كسب مالاً فقد حاز أحد ركني المعيشة، فإن لم يحز على الآخر وهو حُسن التدبير فقد فَقَدَ نصف معيشته، وانهدم أحد ركني المعيشة، ومَنْ حاز الركن الثاني وهو الاعتدال في الصرف، فقد عاش عيشة هنية... ولكن للأسف نرى كثيراً من الناس منحرفين عن هذه الحقيقة كل الانحراف، فتجدهم يصرفون أوقاتهم في الكدّ والتعب مع الأخذ بأنواع التحايل على القانون لتحصيل الدولار والدينار «الذي جمعَ مالاً وعدّده * يحسبُ أنّ مالَه أخلَده» فإن وجب في ذمته مال لله أو للناس صعُب عليه الأداء، فيكتسب الوِزر والجرم وينال من الناس الإهانة في طلب حقوقهم وهو مع انشغاله بالعبِّ من الحرام تجده لا يحافظ على صحة بدنه ولا يبذل شيئاً في تربية أبنائه وتهذيب أخلاقهم... فمثل هذا السفيه أتعس حالاً من الفقير المعدوم، ولهذا استحقّ دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتعاسة في الدنيا والآخرة حيث قال (تعس عبدُ الدينار... تعس وانتكس).
أما الصنف الثاني من الناس فهو البخيل الذي جعل يده مغلولة إلى عُنقه وكأنه جعل على يده غلاً وقيداً يمنعه من الإنفاق؟ والشُحّ أهلك الأمم السابقة وحملهم على أن سفكوا دماءهم وانتهكوا أعراضهم... ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُسوة حسنة فهو لم يدخر شيئاً لغد، وكان يجوع حتى يشدّ الحجرَ على بطنه من الجوع، وكان هذا في فترة من فترات حياته الشريفة، وفترة أخرى كان يملك من المال الشيء الكثير فينفقه في سبيل الله كله خلال ثلاثة أيام فقط، فكان يُعطي الوادي من الإبل أو الغنم أو البقر لمَنْ أسلم حديثاً...
وفترة ثالثة كان - صلى الله عليه وسلم - في عيشة الكفاف يعني الرزق الكافي للطعام والشراب له ولأهل بيته، وهذا معظم أحوال حياته، صلى الله عليه وسلم، يعني أنه مرّ في ثلاث مراحل، مرحلة الفقر وهي بداية حياته الشريفة، فكان يعمل برعي الغنم لقريش، والفترة الثانية فترة الغنى والمُلك لما بدأت الفتوحات الإسلامية، والفترة الثالثة فترة الرزق الكفاف وهي الحال التي مات عليها، صلى الله عليه وسلم.
والحقيقة التي لا شكّ فيها أن أغنى البلاد وأسعدها، هي البلاد التي توزّعت ثرواتها على أهلها... وإنما يكون الضرر ويدخل الخلل إذا وقعت الأملاك والمبيعات والسلع في أيدي الغرباء والأجانب الذين لا يسرنا أن نراهم واضعي أيديهم على معظم ثروات البلد والأراضي الواسعة التي كانت في أيدي أبناء البلاد... وإننا لنخجل أمام العالم الذي وضعنا في ذيل قائمة مدركات الفساد المالي والإداري!
ونحن مسلمون نعرف الحلال والحرام، ونعرف تماماً الشبُهات ومصير كل ما حام حول الحِمى.
ولكننا الآن ونحن بعهد جديد ومجلس جديد ندعو رجال الكويت المخلصين كافة والمختصين والعلماء أن يجتهدوا في مكافحة الهدر والفساد المالي والفكري والسلوكي، فالاقتصاد نصف المعيشة فينصحون المتوغّلين في الإسراف على غير قاعدة راشدة بأن يكفوا عنه، وأن يعتدلوا في معيشتهم، فذلك خير لهم من ضياع أنفسهم وأموالهم وذرياتهم، والحياة سريعة والحساب شديد عند من لا تخفى عليه خافية والسكوت لن يفيدنا شيئاً!