«النووي الإيراني»... سقوط اتفاق 2015 في 2023؟

الرهانات الإيرانية تضاءلت مع مرور الوقت
الرهانات الإيرانية تضاءلت مع مرور الوقت
تصغير
تكبير

عندما تم تعيين روبرت مالي مبعوثاً خاصاً لإيران في الأسابيع الأولى من ولاية الرئيس الأميركي جو بايدن مطلع العام 2021، سال حبر كثير عن المسؤول الأميركي، «الإيراني الهوى» و«المُعادي لإسرائيل»، على حد وصف كثيرين بينهم السيناتور الجمهوري توم كوتون، بيدَ أن وقائع 20 شهراً خالفَت التوقعات.

لا روبرت مالي - خصوصاً - استطاع التسويق لإحياء الاتفاق النووي المبرم بين الدول الكبرى وإيران في العام 2015، بـ«أي ثمن»، ولا إدارة بايدن - عموماً - قدّمت تنازلات كبرى لطهران على غرار شطب «الحرس الثوري» من قائمة الإرهاب أو رفع كل العقوبات التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب بعد مايو 2018، عندما قرر إخراج الولايات المتحدة من الاتفاق.

منذ دخول بايدن إلى البيت الأبيض، راهنَت إيران على تغييرات جوهرية في الموقف الأميركي، من سياسة «الضغوط القصوى» إلى سياسة «الاحتواء والمهادنة»، على قاعدة أن الرئيس الديموقراطي يميل إلى التفاهم معها بخلاف سلفه الجمهوري الذي تجاوز كل الخطوط الحمراء، سياسياً (الخروج من الاتفاق النووي) وأمنياً (تصفية قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني).

لكن الرهان الإيراني يبدو أنه تضاءل مع مرور الوقت وصولاً إلى «الخيبة التامة» تقريباً: جولات تفاوض متعددة (بين فبراير ومايو 2021) مع حكومة الرئيس السابق حسن روحاني، وأخرى تالية (بين سبتمبر 2021 وسبتمبر 2022) مع حكومة الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي، أثبتت أن إدارة بايدن لا تضم فقط فريقاً «إيراني الهوى» (مثل روبرت مالي ووليام برنز مدير الاستخبارات الأميركية بحكم دوره في المفاوضات السرّية التي جرت سابقاً مع إيران)، وإنما هناك فريق مقابل من الصقور (يضم بشكل أساسي نائبة الرئيس كامالا هاريس ووزير الخارجية أنتوني بلينكن)، يرفض التنازل بسهولة عن «أوراق القوة» التي تراكمت بفعل العقوبات المتلاحقة لإدارة ترامب على إيران.

هكذا، بدأت طهران النزول عن الشجرة، فرَمَت أوراقها واحدة تلو الأخرى لأنها بحاجة لمليارات الدولارات التي سيوفرها إحياء الاتفاق، وإنْ أبدت عكس ذلك، في العلن.

ولعل أبرز هذه الأوراق ثلاث: أولاها رفع «الحرس» من قائمة الإرهاب بما يسمح له بالتوغل أكثر في الأنشطة الاقتصادية داخلياً وخارجياً، وثانيها رفع كل العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب وتصل إلى أكثر من 1300 تشمل جهات حكومية وكيانات وأفراداً، وثالثها تقديم ضمانات للشركات التي ستعمل في السوق الإيراني وضمانات أخرى للحكومة الإيرانية بعدم تكرار الانسحاب من قبل أي إدارة أميركية في المستقبل.

كل هذه الشروط تساقطت تباعاً في جولات المفاوضات، بعدما اكتشفت إيران أن إدارة بايدن غير مستعدة لهذا الحجم من التنازلات، على الرغم من قناعتها بأن الاتفاق هو الخيار الأفضل لكبح جماح البرنامج النووي، ومنع خروجه عن سكّته «السلمية» إلى «المسار العسكري».

ومع وصول الأمور إلى مفاصلها الحاسمة قبل أسابيع عندما أعلن الوسيط الأوروبي أن الصيغة التي قدمها للطرفين الأميركي والإيراني نهائية، درست طهران بتأنٍ وحذر العرض المطروح على الطاولة، وكانت قاب قوسين أو أدنى من الموافقة عليه مع طلبات بسيطة قد يقبل بها الأميركيون، لكن «همساً روسياً» في إذن الإيرانيين يتعلق بـ«التوقيت» دفعهم إلى إخراج «أرنبَيْن من القبعة»: الأول تمثل بالمطالبة بإغلاق كل تحقيقات الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالمواقع المشبوهة في إيران، والثاني طلب تعويضات عن الخسائر الاقتصادية التي نتجت عن الانسحاب الأميركي من الاتفاق.

صحيح أن طهران تتهم الوكالة الذرية بالتسييس وإخراج ملف «المواقع المشبوهة» من الأدراج كلما احتدمت المواجهة بينها وبين الغرب، وبالتالي تريد طي هذا الملف إلى غير رجعة، لكن الأدق أن الروس يرون في إحياء الاتفاق النووي حالياً ضرراً كبيراً لهم، في خضم «لي الأذرع» بينهم وبين الأميركيين والأوروبيين في ملف الطاقة.

فالاتفاق النووي - فور إحيائه - يُعيد النفط الإيراني إلى الأسواق بكميات ضخمة (وهو ما سيؤدي على الأرجح إلى انخفاض الأسعار كما تريد الولايات المتحدة)، كما يسمح بتصدير الغاز الإيراني إلى الأوروبيين، وتالياً سقوط جزء مهم من الرهان الروسي على «الشتاء الطويل القارس»، كما ورد في أغنية «غازبروم» التي تهكمت فيها على الأوروبيين بعد قطع الغاز الروسي عنهم.

وفي مقابل مراعاة الروس بتأجيل الاتفاق، على الأقل حتى انقضاء الشتاء، حصلت طهران على وعود مهمة من موسكو بتوسيع التعاون عسكرياً واقتصادياً، إلى مستويات طالبت بها في السابق لكنها كانت تُواجَه بتحفظ روسي، وهو ما بدأ بالفعل من خلال توريد المُسيّرات الإيرانية لاستخدامها في الحرب الأوكرانية، واعتماد الروبل والريال في المبادلات الثنائية لتعزيز التعاون الثنائي بعيداً عن نظام «سويفت» (SWIFT) المالي العالمي.

وترافق ذلك أيضاً مع اتفاق على مضاعفة حجم التجارة، التي ارتفعت في 2021 إلى 4.5 مليار دولار، مقابل 4 مليارات في 2020، و1.6 في 2019.

أمام هذه الوقائع، من المرجح دخول المحادثات الإيرانية - الأميركية «في الثلاجة» خلال الفترة المقبلة، أقله حتى بداية العام المقبل، ريثما تضع الانتخابات النصفية الأميركية أوزارها وتتضح صورة الغالبية في الكونغرس الجديد، لا سيما في ظل الترجيحات بخسارة حزب بايدن الديموقراطي أغلبيته البسيطة في مجلس النواب والهشة في مجلس الشيوخ.

وإذا صحت هذه التوقعات، فإن إحياء الاتفاق في 2023 بصيغته المُبرمة في 2015 سيكون شبه مستحيل، لأسباب سياسية وموضوعية وتقنية، مع حكومة إيرانية أكثر تشدداً وقرباً من روسيا، تُقابلها إدارة أميركية ليست فقط أقل استعداداً بل أيضاً أقل قدرة على العودة للاتفاق، وإن كان باب الديبلوماسية لن يُغلق تماماً لأن بدائل الانسداد السياسي هي المواجهة والحرب.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي