كأنّ موت «زهرة الشرق» وأهلها... قَدَر
... هكذا شلّت السلطة عمل القضاء اللبناني على مدى 730 يوماً
كيف يمكن الاحتفال بذكرى مرور عامين اليوم على «بيروتشيما» وتكريم الشهداء والجرحى فيما التحقيق في انفجار مرفأ بيروت مُعلَّق منذ شهور، وقاضي التحقيق طارق بيطار متوقّف عن متابعة عمله بسبب مسارات و«عبوات» سياسية وإجراءات متتالية كفّتْ يَدَه؟
كيف يمكن إحياء ذكرى الانفجار المُزَلْزِل، والحكومةُ اللبنانية قررتْ هدْمَ الإهراءات، آخِر شاهِد على جريمة العصر، في خطوةٍ تؤيّدها قوى سياسية موالية كـ «التيار الوطني الحر»، وتناهضها كل القوى السياسية المُعارِضة؟ وها هي الإهراءات عشية 4 أغسطس 2022 تَفْقد صوامعها تباعاً وتُنْذِرُ بكارثةٍ بسبب الإهمال المتعمَّد لتبرير إزالتها.
الانفجار ما زال دويُّه يتردّد في أرجاء العاصمة منذ عامين، ولكن أنينَ الجرحى وصرْخات الشهداء المكتومة والعائلات المفجوعة، وأصوات ارتطام الحطام والزجاج، لم تبلغ مسامع أهل السلطة في لبنان.
منذ عامين، والصمت يلفّ الطبقة السياسية التي تُمْعِنُ في تجاهل القضاء، لكنها في الوقت عيْنه تُرَدِّدُ لازمةَ التمسّك بالحقيقة والعدالة، فيما منظمة العفو الدولية تدعو قبل أسابيع قليلة السلطات اللبنانية لرفْعٍ فوري لجميع الحصانات الممنوحة للمسؤولين، بغض النظر عن دورهم أو مناصبهم، من أجل الامتثال لالتزامها بضمان تقديم التعويض عن انتهاكات الحق في الحياة، وهي اتهمت لبنان بأنه «يواصل تقاعسه عن الوفاء بالتزاماته الحقوقية في محاسبة مفتعلي انفجار مرفأ بيروت.
وبالنظر إلى أشهر من المماطلة والتقاعس وغياب الإرادة السياسية، من الواضح أنّ بعثة تحقيق دولية مستقلة ومحايدة، مثل بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة، باتت أمراً ضرورياً لتعزيز العدالة لأُسَر الضحايا والناجين».
منذ الرابع من أغسطس 2020 وبعد مشهد الاستغلال السياسي واستقبال الوفود المتضامنة، والمساعدات الغذائية والأدوية، انصرفت القوى السياسية المتوارثة السلطة منذ أعوام إلى متابعة شؤونها الداخلية.
وُضع الملف في يد القضاء اللبناني، رغم المطالبات برفعه إلى القضاء الدولي لإدراك المتضررين من عائلات ثكلى ومن مصابين وجرحى أن القضاء اللبناني لن يصل إلى أي نتيجة، تماماً كما كانت حاله مع جرائم سياسية وتفجيرات هزت لبنان على مدى أعوام.
كان الكل يعلم أن التحقيق القضائي تتدخل فيه السياسة، فكيف الحال والاتهامات طاولت أمنيين وسياسيين ورجال قضاء ومسؤولين كباراً علموا بوجود النيترات في مرفأ بيروت وأهملوها، وأخفوا أدلة وستروا حقائق، وأسدلوا ستاراً من العتمة على كل مجريات التحقيق.
علماً أن رئيس الجمهورية ميشال عون كان رَفَضَ إثر الانفجار المطالبة بالتحقيق الدولي في قضية الانفجار الهيروشيمي في مرفأ العاصمة معتبراً ان الهدف منه «تضييع الحقيقة».
واعتبر أن «العدالة المتأخرة ليست بعدالة، ويجب أن تكون فورية لكن دون تسرع»، واعداً بانتهاء التحقيق خلال أيام.
لكن ما حصل أنه منذ عامين والسلطة السياسية تعطّل عمل القضاء، والمسار القضائي متوقّف، فيما أهالي الضحايا يطالبون يوماً بعد آخَر ولا يكلّون بحقيقةٍ كاملة لا لبس فيها وبمحاسبة المسؤولين أياً كانوا.
وعلى مدى 24 شهراً، تَقَدَّمَ ملف تفجير المرفأ وتراجَعَ وتَعَطَّلَ.
سُجِن بعض المتّهَمين وأُطلق البعض الآخر، ورَفَضَ البعض الآخَر، أي السياسيون من وزراء سابقين ونواب حاليين معنيين، المثولَ أمام القضاء.
تَسَلَّمَ قاضي التحقيق العسكري فادي صوان ملف التفجير في 13 أغسطس 2020، وادعى صوان في ديسمبر من العام نفسه، على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وثلاثة وزراء سابقين، علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس، لكنهم لم يَمْثلوا أمامه.
أثارت الادعاءات (وصدور مذكرات توقيف) ردات فعل مُعارِضة من الرئيس سعد الحريري دفاعاً عن دياب كرئيسٍ للحكومة، فيما امتنع خليل وزعيتر عن المثول بحجة الحصانة النيابية، وتَقَدَّمَ الأربعةُ بطلباتِ ردّه ونقْل التحقيق.
عُلِّق عمل صوان ثم استأنف عمله لتعلن لاحقاً محكمة التمييز الجنائية كف يده ونقل الملف إلى قاض آخر.
في فبراير عام 2021 عُيّن القاضي طارق بيطار محققاً عدلياً. لكن بيطار اصطدم هو أيضاً بعقبات مماثلة وأكثر حدة، لأنه توسع في الادعاءات وطلب شخصيات وزارية سابقة للمثول أمامه ومنهم الوزيران نهاد المشنوق ويوسف فنيانوس.
عاد مسلسلُ الادعاءات المضادّة في وجه بيطار فتوقّف أكثر من مرة عن العمل، ووُجهت إليه كثير من الاتهامات السياسية التي استدعت تضامن أهل الضحايا معه ورفْع صوره على الطرق، قبل أن ينقسم هؤلاء وتتقدّم لجنة من عائلات الشهداء بطلب رده كذلك.
في حين طالبه أهالي الموقوفين الذين يبلغ عددهم 17 بين مدنيين وأمنيين بالإفراج عنهم ودعوا إلى استكمال عمل المحكمة من إجل بت وضع الموقوفين والإفراج عن الأبرياء.
تضامنت الطبقة السياسية مع بعضها البعض، من أجل منع استجواب المدعى عليهم من سياسيين.
ورغم تأكيد كل الأفرقاء المعنيين ضرورة التحقيق في انفجار المرفأ إلا أن الخطوات العملية ناقضتْ ذلك.
لا بل أن انتخاب النائبين زعيتر وخليل في لجنة الإدارة والعدل بعد الانتخابات النيابية الأخيرة أثار ردات فعل منتقدة، وهما المُمْتَنِعان عن تنفيذ الطلبات القضائية.
كان الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله أكثر وضوحاً حين طالب بيطار بالرحيل واتهمه بالاستنسابية وبتسييس الملف وبأنه يهمل كيفية دخول النيترات إلى المرفأ ويلاحق الإهمال الوظيفي فحسب، محذراً من «كارثة كبيرة ستذهب إليها البلاد إن أكمل القاضي بهذه الطريقة».
رَفَضَ عون طرْحَ نصرالله بإقالة بيطار، لكن رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل الذي دعا مراراً إلى استكمال التحقيق للوصول إلى الحقيقة، طالب بيطار إما بإحضار الجميع إلى التحقيق أو الإفراج عن الموقوفين، معتبراً أن هناك موقوفين ظلماً وأن ثمة موظّفين موقوفين قاموا بواجبهم كاملاً.
ومعروفٌ أن أبرز الموقوفين الذين يدافع «التيار الحر» عنهم هو المدير العام للجمارك بدري ضاهر، فيما رفض عون عبر المجلس الأعلى للدفاع إعطاء الإذن بملاحقة المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا، كما رَفَضَ وزير الداخلية إعطاء الإذن لملاحقة المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، وصادق المدعي العام التمييزي على القراريْن.
رغم كل العراقيل التي وُضعت أمامه، لم يتنحَّ بيطار في حين أن عَمَلَهُ ما زال متوقّفاً، بسبب طلبات الرد والرد المضادة، ودخول الملف في متاهاتٍ قضائية وتعقيدات متشابكة.
بيطار وفي تصريحات نادرة له، أكد مراراً أنه لن يتراجع عن ملف مرفأ بيروت «إلا إذا تم استبعادي بالسبل القانونية المتاحة»، لافتاً إلى أن «الضغوط أو التهديدات لن تدفعه للعودة إلى الوراء»، ومؤكداً «اتكالي على الله وحده (...) والآتي أعظم».
لم يكتف مناوئو بيطار بالعمل على وقف التحقيق القضائي، بل ان معارضيه عطّلوا مجلس الوزراء لثلاثة أشهر بسبب إصرارهم على عزْله، في وقت تحولت حشود شعبية متظاهرة من حركة «أمل» و«حزب الله» أمام قصر العدل للمطالبة بإقالته في أكتوبر الفائت، مواجهات مسلحة في منطقة عين الرمانة - الشياح وكادت تَتَسَبَّب بفتنة واسعة.
بعد عامين على الانفجار المدمّر لنصف العاصمة، ما زال التحقيق متوقفاً. وما زالت القوى السياسية رغم كل المطالَبات بكشف الحقيقة تعمل على تمييعها. والأيام الخمسة التي وَعَدَ بها رئيس الجمهورية للوصول إلى الحقيقة أصبحت 730 يوماً، من دون أن يُعرف مَن الذي أدخل أكثر من 2700 طن من النيترات إلى المرفأ ولماذا، ومَن أهمل وظيفته ومَن المسؤول عن تخزينها، ومَن الذي عرف بها وسكت وما ملابسات انفجارها، ومَن الذي يتحمل مسؤولية سقوط أكثر من 220 ضحية وجرْح أكثر من 6500 آخَرين وتدمير نصف بيروت. والأرجح أنه... لن يُعرف.