... هكذا تُدير واشنطن المعركة ضد موسكو

اغتيال ممنهج لدور الأمم المتحدة لإبقاء الأحادية الأميركية... حيّة

صراع أميركي - روسي
صراع أميركي - روسي
تصغير
تكبير

انقسم العالم قسمين، مؤيد لأميركا وحلفها الغربي، الذي تتقدمه، ضد روسيا، ومعارض لسياستها وعقوباتها الأحادية التي تؤذي الشعوب لتدافع عن عرشها.

إلا أن من الواضح أن دور الأمم المتحدة أصبح طي النسيان أو في الثلاجة إلى أجل غير مسمى، ما يعني أن السفينة الدولية وقوانينها أصبحت من دون قبطان أو في عهدة قادة أقوياء يتصرف كل منهم على هواه ويشرع القوانين التي تناسبه وتخدم أمنه القومي ومكانة دولته... ولكن ما الفرق في نهاية المطاف بين الدولتين العظميين بين روسيا وأميركا؟

خاضت أميركا حروباً متعددة مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية وإبان الحرب الباردة التي أفضت إلى قوتين عظميين تتناحران على موقعهما الدولي: الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

وبدأت الحرب الأميركية على الشيوعية لقلب أو محاربة الأنظمة الموالية لموسكو. وانتشرت قوات الاتحاد السوفياتي في دول كانت ضعيفة، خرجت منهكة من الحرب العالمية، وسيطرت عليها على غرار التمدد الأميركي الذي أحكم سيطرته على الغرب وأوجد نقطة نفوذ (إسرائيل) ليكون دورها منطلقاً للسيطرة الأميركية على دول الشرق الأوسط الذي جنح إلى جانب موسكو خصوصاً الفلسطينيين ودول بلاد الشام وبلاد الرافدين ومصر.

وبعد سقوط «البريسترويكا» في موسكو، اتضح لواشنطن أن خططها بدفع سباق التسلح إلى ذروته والسيطرة على نظام التحويل العالمي SWIFT ووضع اليد على القارة الأوروبية الغربية قد نجح وانهكت اقتصاد الاتحاد السوفياتي، الذي قرر التخلي عن دول عدة تحت سيطرته في أوروبا الشرقية.

ومنذ ذلك الحين، بدأ انكفاء الدب الروسي إلى عرينه لإعادة بناء اقتصاده المنهار واستعادة قوته لان القوة النووية وحدها لا ترفع أي دولة إلى مستوى الدول العظمى.

واحتاج بناء قوة روسيا واستعادة عافيتها عقدين متتاليين. وأثناء تلك المدة، بقيت الساحة خالية لواشنطن من دون منازع، بل إن الدولة الجديدة التي أصبح اسمها روسيا كانت تدعم أميركا في المحافل الدولية وتقدم لها القاعدة العسكرية في أفغانستان والمروحيات لمقاتلة طالبان وتم التعاطي معها على أنها جزء مشارك ومهم - وليس عضواً - في حلف شمال الأطلسي (الناتو).

ولم تكترث واشنطن لصراخ موسكو المتكرر ولكن المنخفض والضعيف المطالب بإبقاء «الناتو» على 12 دولة فقط ووجوب حله بعد أن تخلت روسيا عن «حلف وارسو». إلا أن أميركا بدأت بتوسيعه ليصل إلى 30 دولة.

وليس جديداً أن تفكر أميركا بإستراتيجية بعيدة المدى، وهي تراقب كيف تمد روسيا الخطوط تلو الأخرى، لتصل خمسة أنابيب غاز إلى القارة الأوروبية الغنية. وبدأت الولايات المتحدة بحرق الأرض حول روسيا ومحاولة ضمها تحت نفوذها.

فخططت عام 2000 لغزو سبع دول (أفغانستان، العراق، سورية، لبنان، ليبيا، السودان وإيران)، كما قال قائد المنطقة الوسطى ومرشح الرئاسة الجنرال ويسلي كلارك. وقد نجحت في احتلال أفغانستان والعراق وليبيا وجزء من سورية.

وأرادت أميركا - التي تشاهد روسيا تتعافى وتتحول دولة قوية وشريكة لأوروبا - أن تسبق موسكو وتأخذ الدول الشرق أوسطية لتجد روسيا الأبواب مقفلة ولا مكان لنفوذها.

وبقيت القارة الأوروبية - التي تساهم بمبالغ كبيرة جداً في الخزنة الروسية تصل إلى مليار دولار شهرياً من الطاقة والمعادن وغيرها من المنتجات الروسية - لتعيد الولايات المتحدة جمعها تحت لواء أميركا خصوصاً بعد ان بدأت الأصوات ترتفع من فرنسا تحديداً بأن حلف «الناتو» قد أصابه «موت سريري» وأنه يجب إنشاء جيش أوروبي ليحل مكانه ويحمي أوروبا حتى من أميركا، كما قال الرئيس إيمانويل ماكرون.

إلا أن السيف الأميركي كان أسرع من الإرادة والمشاريع والتمنيات الأوروبية التي اعتقدت أن واشنطن ستقبل بسهولة التخلي عنها وترك شراكتها مع روسيا تزدهر لمصلحة الطرفين.

وكانت الإدارات الأميركية المتتالية - منذ عهد الرئيس رونالد ريغان الذي عاصر البريسترويكا - تخطط للعب في أوكرانيا التي تعتبر الحديقة الخلفية لروسيا، والتي لن تسكت موسكو عن أي توسع أميركي فيها فقط حين تصبح روسيا قوية.

ولذلك فقد بدأ السباق الأميركي للوصول إلى التمكين قبل أن تضطر لتجابه روسيا القوية.

بادر بيل كلينتون - كما قال بنفسه في مقال نشره في «الأتلانتك» - سياسة «توسع الناتو تحضيراً للأسوأ وذلك بضم دول حلف وارسو تخوفاً من عودة روسيا إلى الشيوعية.

وكانت الخطة بتوسيع الاتحاد الأوروبي أيضاً تماشياً مع توسيع الناتو رغم الاعتراض الروسي لأنني أعتقد أنها خطوة صحيحة».

ولم ينف كلينتون أن عدداً كبيراً من السياسيين والمفكرين والديبلوماسيين والإعلاميين حذروا من ردة فعل روسية رهيبة بعد أن تتعافى روسيا من ركودها وضعفها.

إلا أن مصلحة أميركا وهيمنتها على العالم تأتي في المرتبة الأولى وفوق أي اعتبار آخر.

لقد حاولت أميركا جذب روسيا إلى تكتلاتها لتبقيها تحت أنظارها وتقربها لكي لا تفاجأ بتطورها واستعادة قوتها.

فقد انضمت روسيا إلى مجموعة السبع المؤلفة من دول الغرب التي تكن الولاء للولايات المتحدة لتصبح مجموعة الثماني. وشاركت ضمن مجموعة «الناتو» في يوغوسلافيا السابقة من دون إعطائها حق «الفيتو» داخل الحلف، لكي لا يصبح لديها الحق باعتراض انضمام الدول الـ18 التي التحقت بحلف شمال الأطلسي بعد عام 1999 رغم اعتراض موسكو المتواصل وعدم اكتراث أميركا لهذه الاعتراضات بسبب الهدف الإستراتيجي الذي قضى بتحضير الساحة الدولية لتكون موالية لواشنطن قبل عودة روسيا القوية إلى منافسة الولايات المتحدة وتحدي «النظام العالمي».

وآخر العنقود تمثل بموافقة الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف على حرب ليبيا التي قادتها أميركا بمؤازرة من حلفائها الأوروبيين.

وذهبت أميركا إلى العراق وبدأت بالتوسع نحو سورية لإخراج روسيا من قاعدتها البحرية في طرطوس، المطلة على المياه الدافئة الوحيدة التي تمتلكها. وقد كشف قادة المعارضة السورية عن أهدافهم ما دفع موسكو لتدارك الأمر والذهاب إلى سورية بعدما أقنعتها إيران بضرورة التدخل من دون أن تتحدى أميركا.

وزيرا الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأميركي السابق جون كيري، كانا على تفاهم وتنسيق لدرجة أن روسيا لم تكن تهدف لتحرير كامل سورية، إلى أن رفضت «البنتاغون» الخطة التي طرحها كيري - لافروف لإيقاف الحرب والإبقاء على خطوط تماس، كما كان الوضع عام 2016.

وأسقطت تركيا، مقاتلة روسية واحتمت بـ «الناتو»، ما أعطى الإشارة الكافية والواضحة إلى أن واشنطن بدأت بالتحرش بموسكو على الأراضي السورية. وهذه الخطوات التصعيدية أعطت روسيا فكرة واضحة عن أن الغرب لن يتقبل توسعها ووجودها في منطقة نفوذ أميركية في الشرق الأوسط لتبدأ الرحلة نحو إثبات وجودها كدولة عظمى من عدمه.

وهنا بدأ المشوار نحو المعركة الروسية - الأميركية على أراضي أوكرانيا بعد سورية. وبدأ سعي أميركا إلى فصل الموارد المالية الأوروبية عن موسكو. وهو ما تخلله محاولة أميركية فاشلة من قبل الرئيس السابق دونالد ترامب بوقف خط الغاز «نورد ستريم -2» (نجح جو بايدن بذلك) وكذلك بجذب أوكرانيا وتحضيرها للالتحاق

بـ «الناتو».

دفع جورج بوش - الابن بمحاولة فاشلة لقلب النظام في أوكرانيا من دون إصرار كبير، لان هدفه الأول كان الانتصارات العسكرية في أفغانستان والعراق والتوجه نحو سورية، وهو لا يدري أن التجارب التاريخية تشي بان هذه الدول تُعد «مقبرة الإمبراطوريات».

إلا أن الرئيس باراك أوباما نجح عام 2014 بقلب النظام المنتخب ديموقراطياً في كييف، ليبدأ رحلة تدريب وتأهيل الجيش الأوكراني ليصبح عضواً في «الناتو» رغم تحذير مباشر من الرئيس فلاديمير بوتين من هذه الخطوة عام 2008 خلال مؤتمر ميونيخ الأمني، وتكراره في السنوات المتتالية إلى عام 2021 حين بدأ بحشد قواته على الحدود الأوكرانية ليظهر جدية نياته.

هذا المخاض فجر المعركة المباشرة بين موسكو وواشنطن على أساس أن لديهما قوات على أرض المعركة في أوكرانيا. وتتولى واشنطن من خلال قاعدتها الجوية في رامستين الألمانية، قيادة المعركة وإرسال السلاح اللازم وتقديم المعلومات الاستخباراتية لقواتها وقوات «الناتو» والقوات الأوكرانية والعمل على إرسال الأسلحة من أوروبا إلى أوكرانيا وفرض عقوبات اقتصادية على روسيا.

لقد قوضت أميركا النظام العالمي لتحوله إلى نظام همّش دور الأمم المتحدة من خلال شن الحروب من دون موافقة المنظمة الدولية وتهديد موظفي وقضاة المحكمة الدولية وفرض العقوبات على الشعوب تحت عنوان القوة المطلقة لأميركا التي تقرر وتحمي النظام الدولي كما تراه هي.

وهذا ما سهل على روسيا اتباع السياسة نفسها في أوكرانيا بسبب تآكل القوانين الدولية لعقود وبسبب توسع «الناتو» خارج الشمال الأطلسي ليذهب إلى العراق وسورية وأفغانستان ومناطق أخرى في آسيا.

وهذا دليل على أن التسمية ما هي إلا غشاء تتلطى به الولايات المتحدة لمد سيطرتها على أكبر عدد ممكن من الدول والقارات. ولن يعود النظام العالمي تحت مظلة الأمم المتحدة إلا عندما تفقد أميركا أحاديتها وتقر بذلك وتجلس مع الدول الصاعدة التي تتحدى سلطتها.

إلى حين ذلك، سيعيش العالم شريعة الغاب المفتوحة على الاحتمالات كافة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي