معظم الشهادات الدراسية العربية لا يعترف بها العالم المتقدم... وجل مخرجات العملية التعليمية في المجتمعات العربية لا قيمة لها من منظور التطورات العلمية المعاصرة... كل مفردات ومنتجات وتجليات الطب والصيدلة والهندسة وعلوم الاتصال والسلاح والمواصلات في حياة المجتمعات العربية كلها هي من تجليات الآخرين... ومع ذلك، فعندما يأتي ابن أو ابنه لأحد هذه المجتمعات العربية ويرصد عيوب مجتمعاتنا ومنابت سلبياتنا التي أوصلتنا إلى هذه الحال والدرجة من التخلف والسلبية وعدم المشاركة في مسيرة التقدم العلمي والهوان التعليمي والعلمي... فإنه يوصف بأنه «جلاد العقل العربي»!
وفي الوقت ذاته الذي يمضي جل العرب آلاف الساعات في الشكوى من سوء الأحوال الحياتية كلها (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والخدمية والإدارية والتعليمية)، فإنه ما ان يهب ابن أو ابنة من أبناء وبنات تلك المجتمعات جل فكره وثمار محصوله المعرفي وتجربة حياته الثرية، من أجل وصف العلل ورصد منابعها ومسبباتها وتشخيص سبل وآليات البرء والشفاء من تلك العلل كلها، وبالتالي إنقاذ تلك الشعوب السائرة في التخلف خارج مسيرة التقدم والتمدن والإنسانية، حتى تتجه إليه الأصابع والعيون والحناجر بالتهم والتجريح ويغالي البعض فيسمون من تطوع بالطبابة بما يشين ويهين ويدين...
ماذا يريد الناس في هذه المجتمعات التي تعيش (بما فيها المجتمعات النفطية الثرية فأولئك من دون النفط يكونون أفقر من الفقر ذاته) وما الذي يريدون سماعه من مفكريهم المخلصين والمؤهلين لمعرفة ما يتعلق بالداء كله، وما يتعلق كله بالدواء والبرء والشفاء؟ أيريدونهم أن يمسكوا بالطبلة والمزمار والرق ويشاركوا في كيل المديح لعظمة وأمجاد وعبقرية ومنتجات ومخترعات العرب؟ أم يريدونهم أن يلتحقوا بجوقة الرياء لقادة لولا سخرية القدر لما كانوا إلا موظفين صغاراً بحجم ومستوى مؤهلاتهم المتواضعة؟
إن الهجوم على الذين وهبوا حياتهم وجهدهم وثمار محصولهم المعرفي وكيل التهم الزائفة لهم ونعتهم بأنهم جلادو العقل العربي لهو دليل دامغ على أن البعض أضاف إلى علة التخلف علة أخرى هي عمي البصيرة... ومما يحزن أن الشعوب تكره الأطباء المخلصين الذين يصارحونها بحقيقة وفداحة وحجم العلل وتحب الأطباء الكذابين، الذين تحدث عنهم جبران خليل جبران في العام 1920، والذين يمتهنون قول وكتابة ما يود الناس سماعه، لأنه الأسهل والأيسر ولا يكلف صاحبه إلا أن ينسى ضميره ويخون علمه وفكره ومصداقيته...
ومن الأمور المؤسفة (ولكنها مفهومة) التي تقع هي أنه ما إن يخرج في مجتمعاتنا من يقول الحقيقة وينبه الناس إلى حقيقة أننا خارج التاريخ والحاضر والمستقبل، وإننا (للنخاع) متخلفون وغير مفيدين (بأي شكل للإنسانية) بل ومضرون... حتى يأتلف عليه حلف ثلاثي من الحكومات والسلطات، والمؤسسات الدينية، والإعلام المرتبط مصلحياً إما بالسلطات، وإما بالثيوقراط، وإما بالاثنين في آن.
أما الحكومات والسلطات، فلأنهم يعلمون أن مواطناً ذا عقلية نقدية تصل إلى القول الفصل، وهو أن مجتمعاتنا متخلفة بما تعنيه كله العبارة من معانٍ، وأن الذين حكموا والذين لا يزالون يحكمون هذه المجتمعات هم سبب الحال المتخلفة الراهنة، وأن لوم جهات خارجية هو مخدر بمعاني كلمة المخدر كلها... إن القائمين على مجتمعاتنا يعلمون أن مواطنين بهذه الرؤية لا يمكن أن يقبلوا استمرارهم، وهم الذين رُفع اللثام عن جهلهم وعجزهم واستبدادهم وفسادهم وفساد بطانتهم وذويهم. وأما قيادات ورجال المؤسسات الدينية في مجتمعاتنا، فإنهم أول من يعلم أن مواطنين متعلمين تعليماً عصرياً وأصحاب عقليات ناقدة لا يمكن أن يقبلوا فكر ورؤى ونظم القرون الوسطى التي يقدمها الكثير من رجال المؤسسات الدينية بالمجتمعات العربية.
إن نظام الحياة الذي يروج له الكثير من رجال الدين في مجتمعاتنا وإنما يعكس سطحية وبدائية ومحلية رجال الدين في مجتمعاتهم، كما يعكس معالم بيئاتهم الاجتماعية المفعمة بالفقر والتخلف التعليمي والثقافي والرجعية والظلامية وانقطاع الصلة بعوالم التقدم والتمدن والتحضر. ودليلي ببساطة: هل يوجد ألماني أو سويسري أو ياباني أو نرويجي واحد يقول إن مفكره الأمثل هو الشيخ الفلاني؟
وأما الإعلام في مجتمعاتنا فقطاعات عدة منه هي ذات مصالح حياتية مصيرية مرتبطة إما بمؤسسات السلطة والحكم، وإما مرتبطة بالمؤسسات أو التيارات الدينية.
طارق حجي
كاتب مصري، وهذا المقال يُنشر بالتعاون مع مشروع «منبر الحرية» www.minbaralhurriyya.org