No Script

مشاهدات

(مهدي) يا فقيداً لا يعوض

تصغير
تكبير

يُخيّم الموت على الطرقات كالشبح المتربص، يخطف أرواح شبابٍ بعمر الزهور، مشاهدات مروعة تزيد من آلامنا، وتلك الحوادث باتت جزءاً من يومياتنا، مع كلّ خبر وفاة شاب أو فتاة تتجدد الأحزان ونُعيد إحياء آلامنا المكبوتة في قلوبنا.

والسبب إهمال مسؤول عن أداء واجبه، وجهل سائق شاحنة تابعة للبلدية بالقوانين المرورية، وعدم اتباع إرشادات الأمن والسلامة في أعمال الطرقات، وجشع مقاول.

بسبب جهل واستهتار السائق المتهور تمكن من اغتيال أحلامي في لحظة، وما زلت لا أصدق حتى الآن أني فقدت ولدي (مهدي)، فقدت الحلم الذي كنت أتمنى تحقيقه لولدي، كنت أراقبه وهو يكبر أمامي لحظة بلحظة طيلة عشرين عاماً متتالية، كان متفوقاً في دراسته في كل المراحل التعليمية، حتى ابتعث للدراسة الجامعية في الخارج.

لم أصدق بأنني لن أراه مرة ثانية، ولولا الإيمان بالله وقضائه ما كنت لأحيا إلى اليوم، وأتمنى ألا يتعرض أي إنسان لتلك التجربة المريرة.

فقيدي ليس فرداً دفن... فقيدي كوكباً قد فُقِد.

رحلت يا ولدي (مهدي) تاركاً غصّة لأسرتك ومحبيك وأصدقائك، والله فجعتني بموتك، وعزائي بأنك تركت الأثر الطيب والعمل الحسن الذي يذّكرهم فيك كل من عرفك، فعلاً - كم الحياة رخيصة إلى درجة أن أتفه الأسباب قد تكون سبباً في موت إنسان.

عادةً ما تتداول الرسائل من حي إلى حي، وأنا أكتبها من حي متألم مشتاق إلى ميت لم يزل حياً في فؤادي.

ولدي (مهدي)

عامٌ ثقيلٌ قد مضى، عانيت فيه كثيراً على فراقك، مرت الأيام والساعات واللحظات ببطء كبير، لم أتخلَ عن التواصل معك خلالها، ففي كل يوم كنت أشتاق لك، أشتاق لرؤيتك، والحديث معك، أشتاق لأكون بقرب قلبك النقي.

ولدي (مهدي) فقدك كان أشد إيلاماً عليّ من فقدي للدنيا، فقد انفطر قلبي وتغيرت طباعي، وانهمرت الدموع من عينيّ بغزارة، وبقيت أنا فيها أعاني من ألم الفراق والحنين والشوق إليك، دائماً أختلس الأوقات لسماع صوتك من خلال الرسائل الصوتية والفيديوهات المسجلة فى جهاز التلفون ورؤية صورك أيضاً.

- راقبتك وأنت صغير، بدءاً من صور السونار قبل ولادتك، وحتى يوم وفاتك، فكنت تكبر أمام عيني رضيعاً وطفلاً وشاباً يافعاً حتىٰ مضيت ورحلت لأرحم الراحمين، وتركتني وأنا كسير القلب.

-عامٌ صعبٌ قد مضى على فقدك يا ولدي (مهدي) من دون أن أعلم أني سأفقدك في تلك الليلة - وبعد تلك الأحاديث الممتعة التي كنا نتناقش فيها، وهي أحاديث كانت مختلفة ومتنوعة، حيث كنا نجادل بعضنا بعضا ونتصارع معاً كعادتي مع أبنائي، تتخللها تلك الضحكات الممتعة على مواقف عديدة كنا قد مررنا بها في تلك الليلة الأخيرة والتي جمعتنا معاً، افترقنا ونحن أحياء، وبعد مرور دقائق قليلة استقبلتك ممدداً على السرير وأنت نائم بهدوء في نومتك الأبدية، جسداً بلا روح، أناديك وأنت لا تجيب، ما زلت غير مصدق بأنك قد رحلت عني فجأة وبلا مقدمات، هكذا هي الحياة، سفر نسير فيه ولا نعلم متى ينتهي هذا السفر ليسترد بعدها الله أمانته، فالموت هو الحقيقة المطلقة في الحياة وكل نفس ذائقة الموت وهو المصير الذي يسير إليه كل البشر.

ما زلت أتساءل أي فقدان أصعب؟ أهو فقد الوالدين أم فقد الإخوة أم فقد الأزواج أم فقد الأبناء؟

- ولقد مرت بي جميع أنواع فقد الأحبة، فقد فقدت الوالدين والإخوة وأبناء الإخوة والابن، كل ذلك كان موجعاً ومؤلماً، أما فقدك يا ولدي (مهدي) فقد كان أمراً آخر لم أكن أتوقعه أبداً، كنت أتوقع أن أغادر هذه الدنيا الفانية لتقوم أنت وإخوتك بتشييعي وإقامة مراسم العزاء عليّ، ولم أكن أتوقع مطلقاً أبداً أن أفقدك يا فلذة كبدي لأقوم بتشييعك أنا وإقامة مراسم العزاء عليك!

- آه ثم آه ثم آه يا ولدي العزيز - كم الألم موجع لفراقك والمصاب جلل، فوالله لن ننساك، ولم تغب عني صورتك ولا أحاديثك ولا ضحكاتك، فأنت في قلبي وعقلي وأنفاسي، قال لي البعض بأنني كنت متماسكاً ولم يصيبني الاكتئاب ولا الانهيار العصبي، فوالله هم مخطئون، فقد تمكن اليأس مني وشعرت بالضعف، كنت أبكي بعيداً عن أعين الناس وبعيداً عن إخوتك ووالدتك، غرفتك لم تنطفئ أنوارها منذ رحيلك فهي الملجأ لتذكرك والملاذ الوحيد للاختباء عن أعين الكل.

لم يتمكن الموت من انتزاع محبتك من قلوبنا، والفراق لم يتمكن من محو ذكراك من عقولنا، فأنت معنا دائماً حياً بفكرنا وبقلوبنا، نتذكر كل كلماتك بكل تفاصيلها، فوالله لم ننساك أبداً وشوقنا لك يتزايد يوماً بعد يوم منذ أن غادرتنا.

- ولدي (مهدي) كم يؤلمني بأن أكتب كلمة المرحوم قبل اسمك، وأعلم بأن الحزن فى قلبي شعلة لا تنطفئ، ولكن الحياة لا بد أن تستمر وأحاول أن أتعايش معها من دونك، وأقول لنفسي بأنك لا تزال مبتعثاً للخارج لاستكمال دراستك.

- أقود السيارة وأتوجه إلى موقع الحادث في المكان الذي لفظت فيه أنفاسك الطاهرة، وانتقلت روحك الطيبة إلى أرحم الراحمين، أخفف السرعة وأقرأ سورة الفاتحة على روحك الطيبة، وأتخيل ما مررت به من لحظات صعبة، كيف كنت في ذلك الوقت؟ وماذا كنت ستقول؟ هل تألمت؟هل كنت خائفاً؟ الأفكار تبحر بي بعيداً عن الساحل، إن الموت حقٌ على الإنسان، إنه الأقسى والأصعب والأفجع على النفس، ولا يبقى سوى تذكُر الذكريات التي كانت تجمعنا معاً والدعاء لك.

- وكذلك أتردد على مدرستك الابتدائية والثانوية، اقترب من براد ماء السبيل المكتوب عليه اسمك (المرحوم مهدي)، امتزجت فيني مشاعر الفرح والحزن في آنٍ واحد، الحزن على فراقك، والفرح على وجودك بمشاهدتي لاسمك مخلداً على براد ماء السبيل في عالم الأحياء.

- عندما أصلي مع الأحفاد وبعد الانتهاء من أداء الفريضة، نقرأ معاً سورة الفاتحة ونهدي ثوابها إلى أرواح من فقدناهم من أهل وأحبة، أفرح عندما أسمع الصغار يدعون لك بقولهم (يارب خالي مهدي يرجع بالسلامة).

وأبكي عندما أعلم بأن تلك الأمنية لن تتحقق(!)، فحقاً يا فقيدي أنا أتألم كثيراً، أبكي عندما أكون بعيداً عن أعين الجميع، فكيف أنساك وأنت ولدي وصديقي وشريكي بالسفر مررنا بمواقف عدة لا تنسى.

لا يزول ألم الفقد حتى وإن مرّت السنون، لكِن أجر الصابرين عظيم، اللهم اشتقت لولدي شوقاً تعلمه أنت ويجهله عِبادك، اللهُم ارحمه واجمعني به في جناتك.

اللهم أنزل سكينتك على قلب كل أم وأب وأخوة فقدوا ابناً أو ابنة، فوالله الألم موجع والفراق متعب، رحم الله روحاً لم أستوعب رحيلها حتىٰ هذه اللحظة.

فأصعب وجع في الدنيا هو وجع الفراق - كما قال علي بن أبي طالب عليه السلام - فراق الأحبة أشد من الموت - وعندما يسيطر علينا فكرة غياب الميت واختفائه فجأة، واستحالة عودته إلى الدنيا مرة أخرى، فالعقل في هذه اللحظة يقف عاجزاً أمام هذا الغياب الطويل، فلا شيء أصعب من فقدان عزيز، ووالله إن قلوبنا لتحزن، وعيوننا لتدمع، وإنا على فراق أحبتنا لمحزونون، ولا نملك لهم أمام قضاء الله إلا الدعاء، اللهم اغفر لمن عشنا معهم أجمل السنين، و هزنا إليهم الشوق والحنين، اللهم ارحم من حن لهم الفؤاد، واشتاقت لهم النفس، وافتقدهم المكان.

رحم الله نفوساً أتعبنا وأرهقنا رحيلها، رحم الله أرواحاً لا تعوض ولا تولد مرة أخرى، رحم الله ضحكات لا تنسى، وملامح لا تغيب عن البال، وحديثاً اشتقنا لسماعه، اللهم ارحم تلك القلوب التي طالما أحببناها.

صدرٌ يضيقُ وزفرةٌ لا تتعبُ

وخواطرٌ بالدمع ســراً تُكتَبُ

وعلى المحيّا فاض بعضُ توجعي

غالبته، فإذا به لا يُغلَبُ..

ويزيدني ألماً عتابُ أحبتي

جهلا بما تخفي الضلوعُ وتَحجُبُ

والله مطلعٌ على ما أشتكي

وإليه من همي ألوذ وأرغبُ

فالموت من قدر الله الذي يقضي بها على عباده، ولا نقول إلاّ ما يرضي المولي عز وجل، «إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ».

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي