No Script

«الراي» ترصد فواجع عائلات... تموت مرّتيْن

طرابلس المكلومة على صراخها... آخ يا بحر

تصغير
تكبير

- عائلات ابتلعها البحر... بأطفالها وأمهاتها
- أصغر الضحايا طفل الـ 40 يوماً و«تالين» ابنة الـ 18 شهراً ماتت مع أمها الحامل
- آباء مفجوعون خسروا عائلاتهم وتَحَضَّروا لـ «أعراس موت»

لم يتكشف بعد هول الكارثة التي ضربت مدينة طرابلس ولم يلفظ البحر بعد أجساد مَن ابتلعهم، ولا يزال بصيص أمل يرفض أن يذوي يضيء خافتاً في نفوس الأهل الذين يرفضون أن يصدقوا أن أحباءهم وأبناءهم وأهلهم ذهبوا الى غير رجعة وأن «الأزرق الكبير» سيكون أشدّ ضراوة عليهم من أبناء اليابسة الذين «رموهم في فم البحر».

زورق الموت الذي قيل إنه ضمّ على متنه 60 راكباً وتم إنقاذ 47 منهم تَبَيَّنَ أنه كان يحمل عدداً أكبر قد يصل الى ثمانين وأكثر. وبحسب لوائح أسماء الناجين لا يزال نحو 33 شخصاً في عداد المفقودين الذين باتوا ضحيةَ جريمةٍ مزدوجة، قهْر جعلهم يخاطرون «حتى الموت»، وغموض يلفّ مصيرهم وجَعَلَ حتى استعادة جثامينهم حلماً لذويهم ولو من... قلْب الكابوس.

«هم ليسوا محاربين ولا يحملون سلاحاً هم فقط هاربين من هذا البلد». صرخةُ جَدّة احترق قلبها على ابنتها وحفيدتها اللتين ما زالتا مفقودتين في البحر: «أَمِّنوا لنا عيشة هنية حتى نبقى هنا على أرضنا... الله ينتقم من كل من فعل بنا هكذا وجَرَّنا الى البحر...».

لم يَمُتْ هؤلاء الضحايا وهم يحاربون من أجل وطنهم أو يرفعون أسلحتهم في وجه الزعماء أو القوى الأمنية بل ماتوا وهم يحاربون اليأس والإحباط على اليابسة و يصارعون الموج والأعماق في البحر.

للمرة الأولى قاربُ فرارٍ يحمل على متنه عائلات بأربابها ونسائها وأطفالها ورضعها أكثر مما يحمل شباناً كما جرت العادة. وليس طيش الشباب ولا جرأة أحلامه ما دفع بالآباء لحمل صغارهم ونسائهم لخوض البحر وأخطاره بل هو الهرب من مستقبلٍ قاتمٍ ينتظر هؤلاء الصغار في حال بقوا على أرض الوطن النازف.

عميد دندشي الوالد المفجوع الذي فَقَدَ زوجةً وثلاثة أطفال لم توجد جثثهم بعد، يروي لمَن يود أن يسمعه أنه ليس جائعاً وطرابلس بحياتها لم تعرف الجوع، لكنه كان يود أن يؤمّن لأطفاله حياةً أفضل ومستقبلاً مضموناً «فهنا لا يجدون دواءً إذا احتاجوا إليه أو علبة حليب، ولا يمكنهم دخول مستشفى إذا اضطرهم الأمر ولا حتى تَحَمُّل أجرة حافلة مدرسية او قسط مدرسة».

بحرقةٍ يَبْكي ربّ العائلة أبناءه قائلاً: «باتوا شهداء ونالوا أعلى مراتب الشهادة. ما عادوا بحاجة الى مستقبل... كنتُ أريد حياة جديدة وكريمة لعائلتي. كنت أريد الوصول إلى أوروبا لتأمين جواز سفر أجنبي لابني يعطيه حياةً كريمة في المستقبل، لكن الجيش منعني. لماذا؟ هل يمكنه أن يضمن لي العيشَ بكرامة في لبنان؟ لماذا لم يسمح لنا باستكمال الرحلة؟».

عميد الذي سارع إلى رمي نفسه في البحر، راح يساعد العائمين على وجه المياه: «أطفالنا ونساؤنا كانوا عائمين أمامنا فاقدين للوعي. حاولتُ إسعافَ امرأة وصرت أضرب على ظهرها علّها تبصق الماء وتستفيق، فاستعادت وعيها وقلتُ لأحد الصغار ان يتعلق بكتفي لأوصله الى قارب الجيش، وكنت أدعو الى ربي أن يسخّر لي أحداً ليخلص زوجتي وابنتي وابني كما أنقذتُ أنا آخرين... كنت أرى الجثث أمامي عائمة وأنا أدعو وأصلّي».

رائد دندشي، شقيق عميد، حَمَلَ هو الآخَر عائلته، زوجته وأبناءه الثلاثة ليكون الى جانب أخيه في رحلة البحث عن مستقبل. كان موقوفاً عند القوى الأمنية، ولم يودّع طفله بهاء ابن العشر سنوات الذي قضى غرقاً في البحر. وكانت زوجته حورية لا تزال مفقودة الى أن لفظ البحر جثتها لاحقاً في منطقة شكا فيما طفلته «غزل» في عِداد المفقودين.

عائلة دندشي فقدتْ 9 من أبنائها. ومع وصول جثمان الطفل بهاء الى منزل العائلة لإلقاء النظرة الأخيرة عليه، لَعْلَعَ صوتُ الرصاص عالياً في الأحياء المحيطة لكنه لم يَطْغَ على عويل النساء ونحيب الجَدّة المفجوعة التي كانت تصرخ «عشرة أنفس راحوا من بيتي، ليش قتلولي ياهن؟ الله يحرق قلبه مَن حرق قلوبنا وموّت ولادنا».

حرقة القلب في هذا المنزل كبيرة جداً، وكباره كما صغاره ما عادوا يعرفون على مَن يبكون ومَن يندبون ممّن رحلوا بحثاً عن وطن أفضل خلف البحار.

أبو تيمور الدندشي، أحد الأعمام وشقيق عميد ورائد، يقول: "فقدْنا 9 أطفال مع أمهاتهم، راحوا «لأنهم أرادوا الوصول إلى بلدٍ يشعرون فيه أنهم بشر». يبكي العم بحرقة حين يخبر كيف حَمَلَ أشقاؤه عائلاتهم وركبوا البحر ومَخاطره ليؤمنوا لهم حياة نزيهة كريمة بعدما بات البلد بأكمله غير قادر على تأمين «علبة حليب للأطفال أو مستشفى للمرضى».

عميد دندشي الوالد المفجوع الذي أراد إسماع صوته للإعلام لنقل مأساته الى العالم يزفّ أبناءه عرساناً ويقول: «بحياتي ما لبست بدلة. ما بعرف الا إلبس جينز، بس رح ألبس البدلة لأنّي بدّي زفّ 3 عرسان. فقدت طفلين، جواد 8 سنوات وأسد 40 يوماً وفداء ابنة الخمس سنوات التي حُرمت من حنّيتها».

الفاجعة ذاتها بطعمها المُر أصابت شقيقه بلال الذي نجا بينما بقيت زوجته منيرة المصطفى وولداها ليث ورزان مفقودون.

باب التبانة والقبة في طرابلس تودّعان الضحيةَ تلو الأخرى وكأنه مكتوبٌ على هذه المناطق الفقيرة أن لا يفارقها الموت والحداد وأن يكون الحزن رفيقها الدائم.

جنازةُ الطفلة تالين الحموي السماك تحوّلت مأتماً للآمال والأحلام. فالذين ركبوا الزورق كانوا يبحثون عن مستقبل ونقطة ضوء، فـ «رحلة الموت كانت حياة جديدة بالنسبة إلينا» يقول أحد الناجين. لكن موت الأطفال قَتَلَ الأحلامَ وجَعَلَ طرابلس كلها تُفْجَعُ بضحاياها.

مأتم تالين، ابنة السنة ونصف، ووالدتها سارة طالب، انقلبَ الى تظاهرة غضب في شوارع التبانة. هنا كان الشبان يتسابقون على احتضان جثمان الطفلة الملفوف بالكفن الأبيض، ويتناوبون على حَمْل نعش الوالدة وكأنهم بذلك يوفون شهداء الفقر حقهم ويرفعونهم رايةَ غضبٍ في وجه كل منظومة السلطة التي يعتبرون أنها ساهمت في قتْلهم.

آل الحموي لم تنتهِ آلامهم بمأتم الطفلة تالين ووالدتها، فالعائلة مفجوعة بأكثر من مفقود. الوالد محمد حَمَلَ زوجتيه وإحداهما حامل بتوأم وأولاده الخمسة في رحلة السعي إلى حياة أفضل، لكن الموت فرّق العائلة التي ابتلع البحر عدداً من أفرادها ولم يَعُدْ منهم إلى اليابسة إلا 3 من الأبناء.

شقيق محمد يشكر الله على العثور على الأطفال الثلاثة علي ونادية ونارمين، بعد انتشالهم أحياء إنما منهارين لا يستطيعون التحدث عما حصل لهم، فيما توفيت الزوجة الثانية، الحامل سارة (29 سنة) وابنتها تالين، ولا تزال الزوجة الأولى ليال وابنتها نادين في عِداد المفقودين.

الطفل علي الحموي لا يزال مصدوماً ولا يصدّق ما حصل، لكن كلامه لا يخلو من الغضب. ويروي لإحدى وسائل الإعلام اللحظات الأخيرة قبل غرق القارب، قائلاً: «كنا جالسين في الداخل نأكل. أمي وأختي كانو حدي بس وقعنا. وأنا ايدي مكسورة ما قدرت اعملهن شي. وبعد سقوط القارب حضنتني والدتي وشقيقتي الصغرى. بعد لحظات شفت امي عبطت اختي و قالت بسم الله، ونزلت تحت المي... ماتت امي و اختي و ابي ما عارف مصيرو...». ويغص الطفل ويختنق بدموعه غير قادر على متابعة الكلام.

يستغرب أصدقاء محمد الحموي قراره المفاجئ بالسفر مع عائلته فهو لم يبلغ أحداً بذلك، وأصدقاؤه كما عائلته عرفوا بالأمر بعد انتشار خبر غرق الزورق. فهو كان قد جرّب حظه بالسفر شرعياً الى قطر ودبي سابقاً لكن يبدو أن القَدَرَ كان يرسم له خططاً أخرى أشد قسوة من الفقر والعوز والمشاكل.

عائلات بأكملها من اللبنانيين والسوريين دفعت ثمن اليأس والذل والحرمان والبحث عن مستقبل أفضل لأولادها. أطفال سوريون ثلاث دفعوا من أرواحهم ثمن الحرب السورية التي لا تعرف لها ختاماً. ماسة، محمد وجاد سبسبي، غرقوا مع والدتهم ريهام دواليبي التي لم تتخط الخامسة والعشرين من عمرها في رحلة الموت فيما يبدو ان الوالد قد نجا ليعيش الموت مرتين. مدرسة الأطفال الثلاثة نعتهم ببيان مؤثر:

«بفيض من الحزن والأسى والألم ودعت مدرسة رسول المحبة تلامذتها جاد وماسة ومحمد سبسبي، الذين قضوا غرقاً على متن مركب الموت في بحر طرابلس. إن العين تدمع والقلب يحزن، والعبارات تختنق مع غيابكم والكلمات لا توفيكم حقكم في الرثاء. تلامذتنا الأحبة، لقد رحلتُم مع أحلامكم الصغيرة البريئة، فبكتْ مقاعد المدرسة وجدرانها ألماً انسكب في كل زواياها التي شهدت على تميُّزكم خلقاً وأدباً واجتهادا. أيها الراحلون الصغار الألم يعتصرنا لفقدكم، إدارة ومعلمين وطلابا وأهالي، وعزاؤنا أنكم عند مليك مقتدر وستبقون في وجداننا ذكرى لا تمحى. فالرحمة والسلام لأرواحكم الطاهرة».

ومنذ وقوع الكارثة، لا يزال البحر يلفظ جثثاً ويقفل فصولاً في حياة العائلات المُهاجِرة مرشَّحة لمزيد من النهايات السود مع كل طلعة شمس.

فقد عُثر على شاطئ بلدة شكا على جثتي أمير قدور وخديجة النمري فيما لا تزال عائلات بأكملها مفقودة أو فرّق الموت بين أفرادها. فنجا مَن نجا وغاب مَن غاب بعدما بات الأمل بالعثور على ناجين شبه معدوم.

عائلة ريماس المجهولة المصير، فُقدت منها فتاتان... أحد أفراد عائلة الجمل يخشى ألا يتعرف الى شقيقتيه وآخرين من عائلته حين يلفظ البحر جثثهم المنتفخة أو المتحللة نتيجة بقائها طويلاً في البحر... عائلات طالب والجندي والقدور لا تعرف إن كان عليها أن تسعد بالناجين منها أو تنتحب على الذين لا يزالون في قعر البحر بعدما فرقهم المصير الموجع وغيّر وجهتهم، فعاد مَن عاد الى يابسة الألم ورحل مَن رحل على أمل أن يكون مع كل الضحايا في فسيح الجنان.

ومحمد طالب العريس الذي عقد خطوبته قبل أيام هو أيضاً في عداد المفقودين، وترفض خطيبته أن تعتبره ميتاً في قلبها ووجدانها، فهو مفقود وقد يعود إليها يوماً ولا تزال متعلّقة بأمل نجاته وعودته. كان يبكي حين غادر بيتها بعد وداعها وطلب منها أن تدعو له. «لا تبكي»، قالها لها في رسالة نصية، وأضاف: «أنا قوي بك»، لكن بعدها لم تسمع منه شيئاً ولم تصله رسالتها.

عائلة طالب، فقدت الأب والأم والعريس محمد وشقيقه عدنان، ونجا شقيقان منها. محمد خاطَرَ بالسفر أكثر من مرة لتأمين مستقبل له مع مَن يحب لكن القَدَرَ رسم له مخططاً آخر وترك خطيبته مفجوعة.

هو غول الموت الذي لا يشبع من دماء المقهورين، ضمّ الى سجلّاته أسماء جديدة التَحَقَتْ بكل مَن سبقوها في الوطن الذي كُتب له أن يودّع أبناءه إما للموت او للرحيل.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي