رؤية / «هي فوضى..؟»
المخرج خالد يوسف والممثل خالد مع المنتج في المؤتمر الصحافي
الأم « هالة فاخر» حين رأت ابنتها «منة» في حالة مزرية
في عرض خاص أقامته شركة السينما الكويتية في سينما منتزه حديقة الشعب، استمتعنا جدا بعرض مدهش لفيلم «هي فوضى» قصة وسيناريو وحوار ناصر عبدالرحمن واخراج المبدع المصري يوسف شاهين بمشاركة تلميذه المخرج خالد يوسف، الذي أضاف نكهة شعبية لتجربة شاهين الموصوفة بانها سينما النخبة، التى لا تصل برموزها ودلالاتها لرجل الشارع البسيط، أتى التلميذ النجيب لشاهين ليقرب ابداع شاهين صاحب رائعة فيلم «باب الحديد» الى فيلم يتداول الناس همومه بصوت عال في الشارع ومن على المقاهي الشعبية وبالصحف المستقلة، لذا كسّر الدنيا في مصر المحروسة من حيث الاقبال الجماهيري والاشادة النقدية العالية.
«هي فوضى» صيغ برؤية تتسق مع مذهب الواقعية النقدية والذي هو انعكاس حقيقي لآمال وأحلام وهموم المجتمعات الانسانية ومعبرا عنهم، والتي أكدها قبل خمسة آلاف سنة يوربيدس اليوناني ابان فجر الحضارة الفنية في أوروبا، والذي قدم في كتاباته المسرحية انتقادا لدور الكهنة وسلطة الدولة في اليونان عكس معاصريه من كتاب المسرح مثل سوفكليس .
في «هي فوضى» عمل نادر هذه الأيام، ذلك لأن السينما المصرية في الغالب الأعم تتجه الى انتاج أفلام الأكشن مقلدين بذلك السينما الاميركية بتقنيات أضعف، هروبا من جرأة طرح مشاكل المجتمع المصري والتي نقرأها بالصحافة المصرية، وبعيدا عن مقص الرقيب مشكلات تناقشها بعض المحطات الفضائية المصرية كبرنامج «العاشرة مساء» لمنى الشاذلي على قناة دريم 2 وبرنامج 90 دقيقة لمعتز الدمرداش على قناة «المحور» أو أحيانا برنامج «البيت بيتك « لمحمود سعد على الاولى والفضائية المصرية، وفوضى شاهين ويوسف هو فيلم مصري صميم من لحم ودم نابض بالاحساس العالي ساعدت الموسيقى التصويرية لياسر عبدالرحمن وكاميرا مدير التصوير رمسيس مرزوق وأداء الممثلين خالد صالح في دور أمين الشرطة حاتم، محرك الأحداث الرئيسي ومنة شلبي ذات الاحساس الجميل في التعبير في مختلف الحالات الانسانية والشاب يوسف الشريف وكيل النيابة الذي أذهلنا بقدراته التمثيلية، والعظيمة هالة فاخر في دور والدة نور «منة شلبي» وهالة صدقي في دور الناظرة بهية، وعمرو عبدالجليل في دور الضابط سامي، ودرة زروق في دور سيلفيا كانوا جميعا مبهرين استمتعنا بأدائهم متناسقين مع بقية عناصر العرض الفني والذي جعل فيلم «هي فوضى» تحفة فنية مشغولة بمهارة عالية.
قصة الفيلم
يحيط أحياء القاهرة القديمة منذ تاريخ قديم نهر النيل العظيم، وأشهر هذه الأحياء حي شبرا الذي يشكل عصب الحياة الشعبية الحية في مصر، يجمع كل التناقضات الاقتصادية والاجتماعية الحادة، ومع مرور الزمن وثبات الحال السياسي وتدني مستوى الحياة المعيشية، تغيرت الكثير من القيم التي كانت تسود حي شبرا قديما، وتحولت الى مدينة شرسة، اصبح للقوة والسلطة والفساد عنوانا لهذه المرحلة، وقصة حاتم «خالد صالح» أمين الشرطة الفاسد الموغل في البطش هي انعكاس لحالة عامة، وليس ممثلا عن نفسه وساهمت ظروفه الشخصية منذ ولادته في ذلك، فوالدته تخلت عنه في الثانية من عمره لتتزوج من رجل آخر بعد وفاة والده وتنشئته الحزينة بين البيوت المختلفة، الى حب خائب من طرف واحد لجارته نور اضافة لأجواء فساد عامة كلها عوامل كافية ليتحول الانسان «غير السوي» الى وحش شرس من خلال سلطة عمله والذي ينفس به عن عذاباته الداخلية في قهر الآخر .. والآخر هنا شباب خرجوا في مظاهرات سياسية فتم زجهم في احد سجون حي شبرا، فمن أين سيأتي احساسه بالعدالة طالما الطفل المحروق قلبه، الساكن داخله لم يهدأ احساسه بالنقص العاطفي والانساني يوما، ويملك أدوات الحكم في عمله ليبطش بالضعفاء، فطبيعي لهذه الحالة المرضية أن يظلم ويقسو ويعذب المساجين ويقبل الرشاوى من الناس التى تدفع له خوفا منه.
حاتم امين الشرطة توغل في كل حارة في حي شبرا هو ممثل السلطة، وعنوان لفساد مرحلتها التاريخية، فالجو الفاسد غير العادل والتي لا قيمة لتطبيق القوانين بها و كذلك غياب الرقابة الشعبية على سلطة الأجهزة الحكومية النافذة جعلته بلطجيا لمعرفته للكثير من المفاتيح السرية لحل الكثير من مشكلات الناس الغلابة بعد قبضه لرشوة محترمة، وكان خالد صالح بوجهه السمح وفعله الشرير قمة في الاداء التمثيلي في تقمصه لدور حاتم الذي بلا قلب، في قسمات وجهه وعينيه وحركة جسده تعبير لا يمكن أن نقول عنه الا انه من السهل الممتنع الذي يشد عينيك وتكرهه بسبب بطشه لكنك لا تملك الا متابعة أدائه واحساسه الرائع بالدور والذي كان في مباراة حية مع منة شلبي ويوسف الشريف وهالة فاخر التي اكتشفها شاهين ويوسف مجددا بعد سنوات طويلة من احترافها التمثيل وأبرزوا طاقاتها التمثيلية المتنوعة والمذهلة.
مأساة تراجيدية
المأساة التراجيدية الثانية في حياة أمين الشرطة «بعد مأساة طفولته» هو حبه لنور الى حد تحايله على شكله من حيث تركيب باروكة لاخفاء صلعته، وتبييض بشرته، وامتناعه عن الطعام ليصبح رشيقا بعد سمنة واضحة، كل هذا قدم صورة كاريكاتورية لنموذج رجل يسعى للفت نظر فتاة أحبها وغير ملتفته له، وعلى شجن هذه المشاهد الفيلمية الا انها كانت ذات طرح يميل للكوميديا السوداء، حركة كاميرة رمسيس مرزوق «طبعا بادارة اليوسفين شاهين وخالد» حركة سريعة الايقاع بما لا يسقط عنة صيرورة الحدث وتناميه، كاميرا «تصر على وجودها الفنانة الكبيرة فاتن حمامة في جميع أفلامها ومسلسلاتها الدرامية» عين رمسيس نظيفة لا تجمل الواقع بـ «نيولوك» بل تقدمه بصفائه كما هو، ساعدت الموسيقى التصويرية وتحريك هذا الكم العالي من المجاميع في المظاهرات العفوية والتى سجلها توثيقيا المخرج شاهين أثناء مظاهرات حركة كفاية المصرية قبل عامين، تداخل الفيلم الوثائقي مع حركة المجاميع التمثيلية بشكل مدهش وفرضت ايقاعا متناغما جميلا به هارموني عال في الرؤية البصرية والموضوعية.
يتوحش قلب حاتم أكثر وتعتريه الغيرة حين يشعر بصعوبة «القبض» على عواطف حبيبته نور، وهي حالة «الأنسنة» الوحيدة الصادقة في حياته، أو من جانب آخر عدم ميلها له يجعل الوحش السلطوي يشعر بخيبة أمل كبيرة لا يستطيع احتمالها وهو لم يعتاد على ان يقف أحدا في وجهه، فحبيبته تحب وكيل النيابة مع انه مشغول بخطبة غير متكافئة مع سيلفيا «أدت دورها درة زروق» والمعبرة عن الطبقة المتخمة والمهتمة بقشور الحياة «رقص وحشيش وتاتو» وقد خرج وكيل النيابة لأحد المراقص مع خطيبته ولا أدري الى اي حد يسمح للقضاة ووكلاء النيابة بالخروج عن الأعراف المهنية، فنعلم انه غير مسموح لهم ارتياد اماكن الرقص في النادي الليلي فرضا لهيبة سلطته كقاض أو وكيل النيابة، الخطيبة تجهض نفسها خوفا من السمنة و«خراب جسمها» بعد الولادة، فيقرر الخطيب الشريف بعد ذلك التخلي عن حبه لها لانها ليست من ثوبه، وبتحريض من أمه «هالة صدقي» يبدأ بالالتفاف للبنت البسيطة نور ويبدأ قلبه بالانفتاح لها.
حاتم يرقب كل ذلك فيقرر خطف حبيبته نور الى مكان معزول بعد تخديرها ويغتصبها آملا أن تحمل منه طفلا يربطها به، يزداد ايقاع الأحداث لهاثا، ويتجلى أداء الممثلة هالة فاخر حين ترى ابنتها وهي في حالة انهيار، فلم تولول أو تصوت عاليا بل غرقت في دموع حقيقية وهي ترى وحيدتها بحال مزر في واحدة من اجمل المشاهد المؤثرة في الفيلم ثم يبدأ وكيل النيابة العاشق في البحث عن المجرم المشارك لحاتم في خطف واغتصاب حبيبته حتى تنكشف الحقائق في ثورة الناس ضد بطش حاتم وضد الاعتقالات، تبدأ الكاميرا في أكثر من زاوية التقاط هذا المشهد الحي والمؤثر لحركة المجاميع وهي قوى الشعب الثائرة على السلطة المتجسدة في «حاتم» تصعد الكاميرا عاليا لنجد الناس كجيش منظم من النمل مقبل على قسم الشرطة، ثم ينكسر الباب الحديد الكبير، تصعد الكاميرا أكثر فنجد الجيش الآدمي وهو يدخل بين صفوف رجال الشرطة المرتدية للون الأبيض وهو لون لباس الشرطة في مصر، فيرتعش قلبك لهذه الدلالة المشهدية في زحف الشعب للمطالبة الحية بحقوقه مجسدة بقواه الذاتية المقهورة في مواجهة البطش والفساد الذي حتما لم ولن ينتهي بعالمنا العربي في، انتحار حاتم باطلاق رصاص مسدسه على نفسه . وهذا حلم وردي وغير واقعي «لفوضى» شاهين ويوسف في اقرار ارادة «غير موجودة حاضرا» من خلال نهاية عاجلة لاراحة المشاهدين من القلق... المبارك!
مؤتمر صحافي / خالد يوسف: مقص الرقابة الكويتية لن يطال الفضائيات
خالد صالح: تعاطفت مع «حاتم» فهو ظَلَم بقدر ما ظُلمْ
| كتب ايلي خيرالله |
في قاعة سينسكيب الشعب عرض فيلم «هي فوضى» للمخرج العبقري يوسف شاهين وتلميذه النجيب خالد يوسف في حضور عدد كبير من الإعلاميين والصحافيين الذين توافدوا من مختلف المؤسسات التلفزيونية والصحافية العاملة في الكويت... كلٌّ حمل أفكاره وخلفياته المنبثقة من قراءاته السابقة عن الفيلم وجاء ليتأكد مما تنامى الى مسامعه ويناقش أهل الشأن.
ساعتان من الزمن تقـــريبا التقط خلالها المشاهدون أنفــــاســـهم طورا من شـــدة التأثر وتارة من نفاذ الصبر لمعرفة كيفية تسلـــسل الأحداث... وبين الحين والآخر كـــانت تعلو الضحكات في الصـــالة معـــبرة عن تفــــاعل المشـــاهـــدين مع طـــرافة بعض المشاهد والحوارات.
على وقع التصـــفيق الذي امـــتد في كافة أنحاء ذاك المكان اعتلى المنصة كل من خالد يوسف وخالد صالح والمنتج غابي خوري يتوسطهم الشيخ دعيج الخليفة.
تنوعت الأسئلة وتعددت فقد اعتبر أحد الزملاء ان الفيلم تضمن الكثير من المشاهد الخيالية التي لا تمت الى الواقع بصلة كمشهد المظاهرة المنظمة التي قادتها هالة فاخر (والدة نور) في نهاية الفيلم وأدت الى اقتحام اعداد هائلة من الناس مغفر الشرطة. فأكد خالد يوسف ان هذا المشهد يجسد حلما يتمنى ان يراه يوما يعبر فيه الشعب المصري عن حقيقة مشاعره دون أي روابط أو قيود.
اسئلة كثيرة طرحت على المخرج حول صراعه الطويل مع أجهزة الرقابة وما طال الفيلم من «مقص الرقابة» في الكويت تحديدا فاستفاض في توضيح هذه المسألة وأعرب عن أسفه الشديد ازاء ما حصل في الكويت بلد الاشعاع والنور والتي عرفت حركة ثقافية ناشطة جدا لم يعرفها أي بلد عربي «وهذا ما لمسناه تحيدا في فترة ما قبل الغزو»... على حد قوله «فكان من المفاجئ ان يتم حذف هذا الكم الكبير من المشاهد وكأن المخرج الذي عمل على تنفيذ هذا العمل الفني انما يبغي زرع الفساد في المجتمع... وهذا ما نحن براء منه».
وتابع قائلا: «ان منطق الحذف كان يصح في الماضي عندما لم يكن هناك سوى التلفزيون الرسمي في مصر... فكان القيمون عليه يعرضون الفيلم كما عرض في الصالات مقتطعين منه المشاهد التي يريدونها... اما اليوم وفي عصر الفضائيات سقط هذا المنطق تماما... وبعد شهرين سيرى المشاهدون في العالم أجمع «هي فوضى» مشاهده الكاملة دون اي حذف على أكثر من فضائية عربية.
سئل كثيـــرا عن الرسائل الســـياســـية التي يحـــمـــلها الفـــيلم فلـــم يواجـــه خــالد يوســـف اي صعـــوبة في التأكيــــــد على انه يســـاري الانتــــماء وانـــه يـــرى نـــهضـــة البـــلاد من خلال ســـيادة الانظــــمة الليـــبرالية وانـــه يؤمـــن بمــــبدأ «ان تكــــون يســــــاريا عـــلى الأرض... ويمـــيـــنيا فـــي الآخـــرة».
وفي رد على سؤال حول ما اشاعه الفيلم من اثارة للنعرات الطائفية وانه يسخر من معتقدات مقدسة في الديانة المسيحية لا سيما في مشهد دخـــول حاتم الكـــنيسة واضاءة الشـــموع كي تقـــع نـــور في حـــبه أوضح المنـــتـــج غـــابي خـــوري ان الجـــلسة القضـــائية قد حُدد موعدها في 19 من ينـــاير الجاري وان المقومات التي تســـتند اليها الدعوى ليست قوية الركائز.
الى ذلك، سُئل غابي خوري عن رأيه في صالات السينما العاملة في الكويت بعد الجولة التي قام بها على منطقة الفنار وسواها فأعرب عن اعجابه بالصالات وقد لفت انتباهه النظام المتبع للحجز وهو ما يتم بواسطة الهاتف والانترنت واكد انهم سيعملون على تطبيق هذا النظام في مصر بمجرد عودتهم. وفي معرض رده على ما اذا كان مستاءا من الايرادات «الفاقعة» التي تحققها أفلام الشباب الخالية من أي قيمة فنية اوضح خوري ان اي نجاح يحققه فيلم مصري يعتبر مكسبا كبيرا مع العلم ان فيلم الشـــباب الذي حصد نجاحا لافتا في الآونة الاخيرة كان «كده رضا» لاحمد حلمي وقد حمل في مضمونه العديد من الطروحات الجادة... واضاف: «إذا أمعنا التأمل في الافلام التي حصدت أعلى نسبة من الايرادات نلحظ انها حصرت بـ «الجزيرة» و«حين ميسرة» و«هي فوضى» وهذه الأفلام الثلاثة لا تصنف في خانة السينما التجارية.
خالد صالح بطل الفيلم الذي قال عنه يوسف شاهين انه محمود مليجي هذا العصر كما ذكر في الوثائقي الذي سبق عرض الفيلم... اوضح بتواضع الكبار انه سُرّ جدا حين اتصل به الاستاذ شاهين وأعطاه «السكريبت» ليقرأه وأردف قائلا: ظننت بداية انه سيسند إلي دور ثانوي لكن حين علمت انني سأجسد شخصية حاتم بطل الفيلم شعرت بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقي لانني سأقف أمام كاميرا عملاق كبير.
وفي رد علـــى سؤال حول كيفية تقمـــص الشخـــصية وما اذا كان قد التقى أميـــنا للـــشرطة يحمل هذه المواصفات أكد صالح بان حاتم ليس مجرد رجل شــرير يمكن ان نصادفه في الشـــارع بل انها شخـــصية معـــقدة تـــمامــا تجمع بين تناقضات كثيرة.
وأردف: «صراحة لقد تعاطفت مع حاتم فهو ظَــــلَم بقدر ما ظُلِم... وســـبب الألم للآخرين على قدر الآلام التي تتـــصارع في داخـــله».
حفل كوكتيل اعقب المؤتمر الصحافي تناول خلاله الحاضرون ألذ المأكولات وتبادلوا الافكار والنقاشات حول «هي فوضى» وما تركه في نفوسهم من أثر عميق.