No Script

عدسة «الراي» جالت في الماضي والحاضر

لبنان... حين يتحوّل الفرحُ بالأبيض فزعاً منه

الثلوج تغطي بلدة سحمر البقاعية (رويترز)
الثلوج تغطي بلدة سحمر البقاعية (رويترز)
تصغير
تكبير

- الثلوج الموسمية من «روزنامة خير» إلى «خبر سيئ» عن عاصفة تنذر بالأسوأ
- حكاية الذاكرة اللبنانية مع الزائر الأبيض نوستالجيا قروية من فرح وألفة ودفء
- في 1983 قضى 60 شخصاً في أسوأ كارثة ثلجية عرفها لبنان... وسببها الإهمال
- ثلوج الـ 2022 العامرة مرقطة بالسواد... فأهالي الجبال بلا تدفئة كأنهم في العراء

نواطير الثلج في «بياع الخواتم» ما زالوا في أمكنتهم البيضاء، يحرسون الناصع على الجبال اللبنانية. و«ثلج ثلج» لفيروز، هي كل الالفة والدفء للناس الجالسين حول مواقدهم الشتوية، يتطلعون إلى الأبيض المترامي.

أي ثلجٍ لا يثير في الناس ابتسامة عريضة، وهم يلعبون بكراتهم ويتقاذفونها؟ وأي ثلج لا يثير حماسة المتزلجين وهواة المشي وهم يغرقون في الأبيض الناصع، والشمس تسطع عليه فتحوله سجادة من الألماس البراق ؟

منذ صغرهم واللبنانيون يقرأون عن بلدهم الذي تفصل بحره وثلوجه، دقائق، وعن الشتاء القارس والنفناف والضباب الذي يسبق العاصفة الثلجية.

من الضنية وغاباتها القابعة تحت أمتار الثلوج، إلى حرج إهدن الغارق في بياض ناصع يكلل رؤوس أشجاره ويحوّل أرضها جدراناً من الثلوج المرتفعة أمتاراً، إلى غابات الأرز التي تنوء تحت ثقل آلاف السنين والأبيض الذي يترامى على غصونها، إلى فاريا واللقلوق وحلبات التزلج، إلى عاليه وبحمدون وجبل الشيخ وأعالي البقاع وثلوج يناير المُنتظرة من سنة إلى أخرى.

لكل بلدة جبلية حكاية مع الثلج، ومع الناس الذين يجلسون حول المواقد، يشوون الكستناء ويأكلون الخبز المحمص على نارها المتوهجة ويغلون أوراق الكينا عليها، فتعبق رائحة الطب والكينا.

لا تشبه شتوية لبنان وثلوجه أي بلد آخر. حتى الذين يتعايشون مع ثلوج كندا وأوروبا، يشتاقون إلى ثلوج قراهم، لان لكل «ثلجة» طقوسها، ولكل بلدة حكايا مع الثلج والشتاء الممتد من ديسمبر الى مارس، كما لكل شهر قصة مختلفة عن العاصفة.

فأي بيتٍ لا توجد فيه صورة له رازحاً تحت الثلوج، ومحاطاً بأمتار منها أو برجال يجرفون عتبة المنزل، ويزيلون عن سقفه الثلوج، حتى لا ينهار تحت وطأتها.

كل ما في ثلوج لبنان ينْده بالفرح، بالرغبة في السير تحت شمس فبراير ومارس على بساطٍ ثلجي يمتد مساحات تكاد العين لا ترى أفقها، وشرب الثلوج في الأماكن النقية البعيدة عن الممرات ممزوجة مع الحامض أو ماء الورد.

هو الثلج الذي لا يكاد يُذكر حتى يرتسم الفرح على الوجوه، ينتظره اللبنانيون كموسمِ خيرٍ يكلل جبالهم ويخزّن ثرواتهم المائية حتى الربيع، في الينابيع الجوفية. وهو الثلج الذي يتحول في هذه الأيام العصيبة نقمةً بدلاً من النعمة.

حين تبدأ نشرات الأخبار في لبنان بأخبار الطقس، فهذا يعني ان الكارثة آتية لا محال. الكبار يضحكون في سرّهم حين يتحدث مذيعو الطقس عن العواصف ويطلقون عليها أسماء، فيما هم معتادون عليها، ينتظرون العاصفة والثلوج سنوياً.

هي حياتهم اليومية، يتعاملون معها وفق روزنامة دقيقة للزراعة والحراثة والري وتدفئة المنازل، التي لا تخلو من موقد حتى لو توافرت فيها كل أجهزة التدفئة الحديثة.

حتى «الشومينيه» لم تستطع أن تحل محل وجاق الحطب أو المازوت في ليالي السهر الطويل. لكن في ظل الحالة المأسوية التي يعيشها اللبنانيون، صارت العاصفة الثلجية «مخيفة» وتنذر بالأسوأ.

في عام 1983 ضربت لبنان أقسى عاصفة ثلجية.

سوء التدابير وترهُّل الدولة ومؤسساتها حينها، جعلت عشرات اللبنانيين يُحتجزون في الثلوج على طريق ضهر البيدر، وكانت أقوى كارثة إنسانية ذهب ضحيتها ستون شخصاً في مأساة دفن تحتها ركاب السيارات بعدما وصل إرتفاع الثلج أمتاراً عالية.

منذ ذلك التاريخ والمؤسسات المعنية ترزح أكثر فأكثر تحت وطأة الإهمال وعدم وجود تجهيزات مناسبة.

في بعض البلدات الجبلية كانت البلديات هي التي تؤمن الجرافات لفتح الطرق وتعمل مراكز الدفاع المدني والجيش على إنقاذ المحتجزين.

حتى الأحزاب التي كانت تملك حضوراً سياسياً تسعى إلى تأمين ما يلزم من خلال علاقاتها لمساعدة الناس الباقين في منازلهم الجبلية.

ومع كل شتوة وعاصفة كانت فضائح وزارات الأشغال المتعاقبة خبراً أساسياً في حياة اللبنانيين.

اليوم ومع تفاقم الوضع الاقتصادي، تحولت علاقة اللبنانيين مع الثلوج والعواصف علاقة مأسوية.

منذ أشهر وأسعار المحروقات ترتفع في شكل جنوني وتحولت إلى الدولار الأميركي.

والقابعون على علو من ألف الى ألفيْ متر، يحتاجون إلى تدفئة متواصلة، فيما ارتفعت في المقابل أسعار طن الحطب إلى حد خيالي فباتت أشجار لبنان هدفاً للقطع والتحطيب والبيع عشوائياً.

ومع ارتفاع أسعار الدولار وانهيار شبكات الكهرباء وتوقف المولدات الكهربائية عن العمل، تحولت أي عاصفة ثلجية إلى كابوس يُقْلِق اللبنانيين.

فالكهرباء مقطوعة، والمولدات متوقفة عن العمل. هي حلقة مقفلة، فالبرد يولد الأمراض في زمن كورونا العصيب أصلاً، والأدوية مفقودة أو أسعارها نارية.

و«نزلات البرد» لم تعد مجرد مرض بل أصبح الطريق نحو المأساة الفعلية.

والطرق التي لا تُفتح بسبب تَراكُم الثلوج، تُراكِم الهموم، فالجرافات لا تعمل من دون مواد تُرش على الطرق لفتحها ومنْع تكوُّن الجليد، وكل ذلك غير متوافر، والعائلات المحتجَزة في منازلها، تريد الخروج إلى أعمالها ويومياتها ونقل أي مريض قد يحتاج إلى مستشفى.

هي الحالة نفسها ساحلاً وجبلاً، حيث تفيض الطرق وتنهار تحت وطأة مستنقعات تغرق فيها السيارات، وتتحول الأقنية إلى مجاري مليئة بالأوساخ في غياب أبسط أنواع العمل البلدي للتنظيفات ورفع النفايات.

لكن للجبل وثلوجه قصة أخرى. فحتى «ويك اند التزلج» تحوّل عبئاً، على بعض الذين يهوونه.

عادةً كانت هذه الرياضة في لبنان حكراً على الأثرياء.

لكن تدريجاً تحوّلت رياضة في متناول غالبية اللبنانيين، رغم أنها بقيت محصورة بطبقة من الذين يملكون شاليهات فخمة أو يستأجرونها بأسعار باهظة.

واليوم مع ارتفاع أسعار المعدات لتصل إلى أكثر من 400 دولار وثياب الرياضة الشتوية لتصل الى سعر يتجاوز في كثير من الأحيان 500 دولار للملابس الكاملة، تخلى كثيرون عن هوايتهم.

فعادت إلى حفنة ضيقة من الذين يملكون ما يدفعونه مقابل ساعات التزحلق على الثلج.

فيما يكتفي أبناء الطبقة المتوسطة والفقيرة باللهو بكرات الثلج وتَقاذُفِها والتقاط الصور عندما يصفو طقس لبنان وترتفع أشعة الشمس.

... إنه الأبيض «المرقّط» بأسْود أزماتٍ تكاد معها «بلاد الأرز» تتحوّل حُطاماً لم يُبْقِ من نشيد «بتتلج الدني بتشمّس الدني يا لبنان بحبك تتخلص الدني» إلا نغمة كأنها لوطنٍ حلم يندثر تحت ركام أيامٍ ما عاد اللبنانيون يرونها... «جايي وفيها الشمس مخباية».

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي