ماكرون أعاد تعويم «المنظومة» الماكرة لكنه أبقى بيروت تحت العين الدولية
الـ 2021 الفرنسية في لبنان... جعجعة بلا طحين
يكاد يكون 2021 عام انتهاء المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بعد زيارته بيروت على وهج إنفجار مرفأ بيروت في 4 اغسطس 2020.
ويكاد يكون 2021 كذلك عام محاولة ماكرون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، عندما زار السعودية قبل أقل من شهر والتقى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وأطلق رسائل تحذيرية للسياسيين في لبنان، وجدد التذكير بالقرارات الدولية، ومنها الـ 1559.
عندما أطلق الرئيس الفرنسي مبادرته لحكومة غير سياسية ومن إختصاصيين، أعاد معه تعويم الطبقة السياسية. كان الرئيس الفرنسي متأثراً بحجم «بيروتشيما» ومتعاطفاً مع آلام اللبنانيين، فوجّه أشد التحذيرات قسوة في حق السياسيين في مؤتمره الصحافي. لكنه قام في الوقت نفسه بخطوة معاكسة تماماً فجمع الطبقة السياسية، التي كان اللبنانيون تظاهروا ضدها، في قصر الصنوبر على طاولة واحدة، وإستمع إليهم يطرحون إصلاحات وتصورات لمستقبل أفضل للبنانيين، في وعود لم يُنفذ منها شيء.
وبدأ مع هؤلاء مسارُ إعادة تشكيل الحكومة وإطلاق عجلة التحقيق في انفجار المرفأ وتقديم مساعدة للشعب اللبناني، والتفاوض مع صندوق النقد والقيام بالإصلاحات الضرورية ومكافحة الفساد وغيرها من العناوين الرنانة.
وفي موازاة بثّ ماكرون الحرارة في علاقات فرنسا مع القوى السياسية كافة، كان اللافت تواصله المباشر مع «حزب الله»، وصارت الحركة على خط باريس - الضاحية الجنوبية لبيروت سالكة عبر موفدين ورسائل متبادلة.
ولم تكد تمرّ أسابيع حتى بدأت المبادرة تفقد معناها. اختير السفير مصطفى أديب رئيساً مكلفاً تشكيل الحكومة ثم أطيح به. واختير الرئيس سعد الحريري وأطيح به أيضاً، وكُلف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة، التي تنهي السنة الحالية من دون أن تجتمع بعدما لم تعقد منذ تأليفها (سبتمبر الماضي) إلا 3 جلسات.
شكل ميقاتي حكومةً سياسيةً تحت غطاء إختصاصيين. فكل فريق سياسي شارك في الحكومة على طريقته مسمياً وزراءه، حتى أن عرقلة التأليف كانت لتَقاسُم الحصص الوزارية. فإستعادت الطبقة السياسية ما كادت تفقده منذ إحتجاجات 17 أكتوبر2019 وصولاً إلى إنفجار المرفأ.
لكن الروح الذي بثّها ماكرون بالمنظومة جعلها مجدداً سيّدة اللعبة السياسية من دون منازع، رغم إنهيار الليرة ومعها أحلام اللبنانيين بغد أفضل.
تشكلت الحكومة، وكأن لا متغيراتٍ حَصَلَتْ ولا إنتفاضات ملأت بيروت وطرابلس والجنوب. وكل ما حصل أن فرنسا بقيت على تَواصُلها مع كل القوى السياسية، ونشطت حركة موفديها إلى بيروت تحت ذرائع مبادرة ماكرون التي لم يتحقّق منها أي شيء عملياً. ولم يَفُتْ الحكومة في أولى أيامها إلا أن تقع في مشكلة مع السعودية من خلال تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي العدائية للمملكة والإمارات وإصراره على عدم الإستقالة.
وجاءت زيارة ماكرون للسعودية أوائل ديسمبر، لتعطي اللبنانيين أملاً بإحتمال وضع بلدهم مجدداً على سكة الحلول الغربية - العربية، ولا سيما في إطلاقها رسائل تتعلق بالقرارات الدولية والمساعدة الإنسانية. لكن فعلياً لم يحقق ماكرون منذ إطلاق مبادرته أي تقدم يذكر في سبيل إصلاح الوضع اللبناني.
فماذا قدّمت فرنسا للبنان - وخصوصاً أنها التزمت التحرك تجاهه جدياً - بين إنكفاء أميركي ونأي سعودي تام عن التدخل في مشكلات لبنان؟
أولاً، خسرت بيروت الرهان على أي مؤتمر دولي يتعلق بمساعدة لبنان, فباريس لم تستطع لمرتين حشد الدعم الكافي مادياً، لا عبر المؤتر الدولي الذي عقد في نهاية 2020 ولا عبر المؤتمر الخاص بالجيش اللبناني الذي عُقد هذه السنة. وهذا الفشل مردّه في شكل أساسي إلى غياب الخليج عن تقديم الدعم المادي الذي كانت تعوّل عليه باريس.
ثانياً، لم تستطع فرنسا فرض إيقاعها في تشكيل الحكومات، وخصوصاً في ضوء التناقضات التي حفل بها تعاطي موفديها إلى لبنان مع القوى السياسية. فباريس ظلّت متمسكةً إلى اللحظات الأخيرة بالرئيس سعد الحريري، وقادت مفاوضات شاقة حتى في تفاصيل التشكيل بينه وبين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، ومن ثم إرتضت بوزارة المال لـ «الثنائي الشيعي» («حزب الله» وحركة «أمل»)، وقبِلت بتقاسم الحصص، بما يشبه كل المفاوضات لتشكيل الحكومات السابقة. ومن ثم دعمت وصول الرئيس نجيب ميقاتي وإستقبلته في الإليزيه في أول زيارة رسمية له.
لكن حين وقعت خطيئة قرداحي نأت فرنسا بنفسها عن أي مفاوضات تتعلق بإقناع السعودية ودول الخليج بعدم إتخاذ تدابير في حق لبنان، ولا سيما ان ماكرون كان يُعدّ العدّة لزيارة الرياض بعدما أرجئت لأكثر من مرة.
وكان ماكرون المرشح الرئاسي في الأشهر الأخيرة قبل الإنتخابات الفرنسية، يحاول إنتزاع نصر ديبلوماسي رئاسي يصرفه في باريس، وليس في بيروت، عبر عقود تجارية وصناعية وثقافية، وعبر إبقاء باريس صلة وصل بين السعودية ولبنان.
والمفارقة أن ماكرون ذَهَبَ إلى الرياض وفي جعبته نية حلحلة العقدة الحكومية. وأقصى ما حصل عليه إتصالٌ بين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي. لم يُدْعَ الأخير إلى الرياض، ولم يتصل ماكرون بالرئيس عون. وبدت هذه المفارقة وكأنها نوع من التوازن في الموقفين السعودي والفرنسي تجاه لبنان.
قدّم قرداحي إستقالته، لكن باريس رفعت السقف عبر معاودة التذكير بالقرار الدولي رقم 1559، ما إعتبر مُوَجَّهاً ضد «حزب الله». إلا أن المواجهة تبدو وكأنها نوع من أنواع التعويض السياسي ليس أكثر. فباريس نفسها دعت وزير الأشغال علي حمية المحسوب على الحزب الى زيارتها، وحمية ليس غريباً عن فرنسا وقد درس في جامعاتها ويحمل جنسيتها، في حين أن ماكرون الذي إتصل بميقاتي لم يقم بالمثل مع رئيس الجمهورية ميشال عون، وأوفد إليه السفيرة الفرنسية في بيروت لإطلاعه على نتائج المحادثات مع الرياض حول لبنان. لكن عون ردّ على تجاهل ماكرون له بعدم إستقبال الموفد الفرنسي بيار دوكان وإدلائه بتصريحات علنية ينتقد فيه التصرف الفرنسي.
ثالثاً، حاولت باريس حضّ لبنان على مفاوضات مع صندوق النقد، لكن المفاوضات ما زالت متعثرة منذ حكومة الرئيس حسان دياب. وموفدها إلى بيروت بيار دوكان زارها مرات عدة من دون تحقيق أي خطوة تُذكر، لا على طريق دفع الحكومة والبرلمان إلى القيام بإصلاحات، ولا مصرف لبنان إلى تقديم ما يطلبه صندوق النقد من معلومات. وكانت الزيارة عبارة عن إبقاء خيط التواصل موجوداً مع لبنان من دون أي جهد إضافي.
ومع إنتهاء الـ2021، تبدأ باريس عملياً الدخول في مرحلة الإنتخابات الرئاسية. ويبدأ ماكرون طريقه كمرشح رئاسي إستفاد من زخم زيارته إلى بعض دول الخليج، ولا سيما السعودية إقتصادياً عبر إتفاقات صناعية وعسكرية وتجارية يستثمرها في حملته الإنتخابية. أما لبنان فسيكون على موعد مرة أخرى مع تقلّبات السياسة الفرنسية تجاه «بلاد الأرز» والمسؤولين فيها، في خضم تهويلات بفرض عقوبات على سياسيين لبنانيين، والبحث مع الإتحاد الأوروبي لوضعها موضع التنفيذ على مستوى الإتحاد. لكن كل ذلك لم يتحقق، وبقي اللبنانيون يراهنون على أن تعيد «الأم الحنون» قراءة خطواتها الخاطئة في لبنان والتي ساهمت بشكل مباشر في معاودة تعويم الطبقة السياسية.