بيروت تودّع الـ 2021 بلا... روح ثقافية

تصغير
تكبير

في مثل هذه الأيام، من ديسمبر، واستعداداً لعيدي الميلاد ورأس السنة، كانت الأضواء والزينة تتغاوى في الألوان، في الأحمر والأصفر والأخضر، وكانت شجرات الميلاد تتباهى بأنها الأكبر والأجمل بكُراتها الكبيرة وأضوائها المُشعّة... وكان لبنان يعجّ بالاحتفالات وبالاستعداد لحفلات نهاية السنة عبر طوفانٍ من المسرحيات والأفلام ومعارض الكتب وكل ما يمكن أن يشكل واحةَ فرحٍ وثقافةٍ وحب للحياة.

تقول قصيدة الياس أبو شبكة قبل نحو قرن: «ارجع لنا ما كان يا دهر في لبنان»،... هي حال اللبنانيين اليوم، في غياب الروح الإحتفالية والثقافية وفي إنحسار كل ما كان يشكل مخزوناً وإرثاً لا يضاهى. فبعد عامين على الإنهيار العام وتَراجُع غالبية النشاطات الثقافية، بفعل الإنكماش الإقتصادي وإنتشار «كورونا»، كانت تأمل بيروت في إستعادة بعض من إحتفالاتها وبريقها على الأقل.

ليس بسيطاً أن يُشاهِدَ اللبنانيون عودةَ الحياة إلى المعارض الغربية، إلى طفرة الأفلام في العالم التي أُقفل عليها بسبب «كورونا» ليعاد إطلاقها مجدداً وإنطلاق مهرجانات أوروبية وعربية، وإكسبو دبي وفعاليات عربية وخليجية، إلى إحتفالاتٍ توالت إعلاناتها على شاشات التلفزة الغربية عن كل ما هو جديد.

العطر الأحدث، المسرحية التي لا يجب تفويتها، السيمفونيات التي عادت لتعزف أمام جماهير إشتاقت إلى موسيقى حية، لا عبر التلفزيون أو الإنترنت. كل المعارض فُتحت والمسارح عادت لترسل إلى زبائنها التقليديين نشرات العروض المحلية والأجنبية، السيرك، المسرحيات الغنائية الراقصة والأفلام الحديثة. الحياة الثقافية عادت، وعادت معها معارض الكتب والمواسم الأدبية وجوائزها.

دبّت الحياة مجدداً في غالبية دول العالم (قبيل تسونامي اوميكرون) إلا في بيروت. تلك المدينة التي كانت تغفو وتصحو على حدَث ثقافي وفني، على ملاحق ثقافية، على مسارح الرحابنة وفيروز وصباح ومسرح شوشو وروجيه عساف، على مسرح المدينة ونضال الأشقر ورفيق علي أحمد على مسرح دوار الشمس، على مهرجانات بعلبك وبيت الدين وجبيل، على نبض الحياة الثقافية يدبّ فيها، في معرض بيروت العربي ومعرض أنطلياس ومعرض الكتاب الفرنكوفوني وزواره من كتاب وأنشطة وندوات. كل ذلك بات معلَّقاً على خيط واهن ما زال يربط بعض اللبنانيين بمحاولات البقاء على قيد الحياة ولو ثقافياً. لكن مَن سيغامر بمهرجانٍ يأتي بفنانين غربيين إلى بلد المجاعة والفقر، وأي فرقةٍ موسيقية ستأتي إلى وطن الحرب الدائمة؟ ومَن سيغامر في إنتاج مشروعٍ ثقافي وفني، في بلدٍ تنْهار ليرته كل يوم من دون حسيب أو رقيب؟

فالثقافة أصبحت أمراً مُكْلِفاً، ومسارح بيروت ومعارضها وصالات السينما تحولت ترفاً، وصار الإبداع الفني عبارةً عن نسخ تلفزيونية ممجوجة ومدبلجة، فيما اللبنانيون الذين إعتادوا المعارض الفنية والمسارح والموسيقى عاجزين عن إيجاد مساحة من الفرح والحلم.

بعد سنتين من الإقفال ومن إنهيار العملة اللبنانية، تَغَيَّر مشهد المدينة. بطاقة السينما أصبحت بـ75 الف ليرة، بعدما إرتفع سعرها نحو ستة أضعاف عن سعرها الأصلي. حتى الإعلانات الفنية غابت، وغاب معها الإبداع الفني، لتبقى لوحات إعلانية سياسية بحت قبل الإنتخابات النيابية.

معارض تجارية وفنية لم تعد تجد سوقاً لها، ومع إقتراب الأعياد، بدأت محاولات خجولة لإقامة معارض ميلادية وتشجيع حرفيين وترويج لصناعات محلية بعدما إرتفع سعر الدولار وباتت أسعار المنتجات الغربية مكلفة جداً. لا معارض أعراس ولا زهور، ولا حتى أسواق المأكولات اللبنانية أو الغربية. مساحات صغيرة لإنتاج بعض اللقاءات لا تكفي حتى لتسديد الكلفة.

في المقلب الآخر، تعب فنانون عريقون واستراحوا، فيما يفتش آخرون عن عيشهم خارج الحدود، ومنهم مَن يتفرج على بيروت تُنازِع ثقافياً وحياتياً. ويندر اليوم أن تجد عرضاً مسرحياً أو إحتفالية فنية.

واحدة من الاحتفاليات التي بقيت من زمن بيروت الجديدة مهرجان «بيروت ترنم» الإحتفالي الخاص بعيد الميلاد، حيث تتوزّع الأناشيد على كنائس بيروت. كان هدف المنظمين حين إنطلق العام 2010 جمْع بيروت بكل فئاتها في فترة الأعياد بموسيقى عالمية ولبنانية تجْمع الروحانيات والثقافة والتاريخ. ينازع المهرجان اليوم للبقاء، في وقت تراجعت مهرجانات أخرى عن الحضور.

مسارح غابت، وصمدت قلة منها ويُشهد للقائمين عليها محاولتهم البقاء على قيد الحياة الثقافية، وبينها مسرح مترو المدينة وعرْضه الذي ما زال جذاباً («هشك بشك» و «بار فاروق»). معارض فنية ومتاحف أقفل بعضها بعد تضرره بإنفجار بيروت كمتحف سرسق ومتحف بيروت، وبقيت معارض أخرى تحاول بالحد الأدنى الإستمرار في الترويج للوحة فنية أو منحوتة صمدت في وجه الضحالة المستمرة، مثل معرض تانيت وكاليري جانين ربيز وبيت بيروت وغيرها ممن تحاول حتى إقامة جولات فنية إفتراضية، تماماً كما بعض المهرجانات السينمائية التي قللت نشاطها بسبب الوضع الإقتصادي بعد إنحسار موجة «كورونا»، فإستعاضت بلقاءات إفتراضية.

معارض الكتب غابت عن المشهد الثقافي، فنزاع المكتبات مع البقاء لا يغري بإقامة معارض كُتُب كلفتها عالية، بعدما أصبح شراء الكتب ترفاً. ومَن ينشر كتاباً ويغامر في سوق العرض والطلب المتوقف عند حدود سعر الورق بالدولار؟

في المدينة التي كانت لا تنام، صار الفن والثقافة سراباً. والبلد الذي كانت مهرجاناته ومَعارضه أشبه بالحكاية اليومية، يُنازِع حتى يبقى له مكان في الخريطة الثقافية. وعشاق السينما والمسرح واللوحات باتوا يفتشون عن كل جديد عبر الجولات الإفتراضية في الخارج لمتاحف ولوحات وفرق موسيقية، أو يكتفي بملاحقة آخر إنتاجات «نتفيلكس» اذا وافق المصرف على إستعمال بطاقته المصرفية للدفع بالدولار الطازج.

في بلد الفن، لم يعد هناك مكان لأغنية جيدة. لم يبقَ للبنانيين سوى صوت فيروز إختزالاً لتاريخ لبنان الفني والثقافي والإبداعي، وللحسرة على زمن جميل يندثر تحت سنوات الحرب والجوع.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي