مَظاهر مَرضية من عوارض الانهيار المالي

عالم «المُراهنات» المُظْلِم يَنْتَعِشُ في لبنان

عالم «المُراهنات» المُظْلِم يَنْتَعِشُ في لبنان
عالم «المُراهنات» المُظْلِم يَنْتَعِشُ في لبنان
تصغير
تكبير

حال اللبنانيين اليوم مع المال تشبه ما غناه إيلي الشويري وجوزف ناصيف «يا دنيي شتي مصاري شتي علينا فلوس، يا ربي شي صرة كبيرة ملفوفة بشي حصيرة صار علينا ديون كتيرة فلووس فلوس فلوس»... قد تكون هذه الكلمات الأكثر تعبيراً عن حالات البحث عن المال بأي ثمن.

ورغم أن لا دراسات علمية ولا تحقيقات اجتماعية ناشطة لتَلَمُّس ما أنتجه الفقر المتزايد بعد انخفاض سعر الليرة، وسوء أحوال اللبنانيين بعد عامين من انهيار نظامهم الاقتصادي والمالي، إلا أن المظاهر الأولية بدأت تفرض نفسها، سواء في ارتفاع معدل السرقات، أو الجرائم وعمليات الخطف مقابل فدية وتضخُّم حال التسول وما شابه.

لكن الآفات الإجتماعية ووسائل الكسب السريع، سرعان ما بدأت تنتشر وهذه لا تحتاج إلى دراسات، لأنها أصبحت مكشوفة ومتداوَلة أخبارها في غالبية المناطق. وأكثرها هي تلك التي ترتبط بعالم المراهنات، لدى فئة تعاني البطالة والفقر وتطمح إلى مكسب فوري وتغيير نمط عيش يصبح أشدّ قسوة يوماً بعد آخر.

هذه ليست جريمة منظمة، علماً أنها خرق للقانون. لكن أفلام المراهنات والمسلسلات التي تصور ذلك العالم المظلم والسوداوي في مواجهة وقائع الثراء الفاحش، تغري الكثير، فكيف الحال في بلادٍ أصبح الحد الأدنى فيه يناهز 25 دولاراً، وصارت البحبوحة سراباً.

لم تعد لعبتا «اليانصيب» و«اللوتو» تكفي اللبنانيين، بعضهم يعتبرها مراهنة وبعضهم الآخر يعتبرها تسلية، واللبنانيون تعوّدوا اليانصيب ودواليب الحظ وأغنيته الشهيرة «يا نصيب شدّ وصيب» منذ عقود، قبل أن تصبح لعبة اللوتو رائجة بعد الحرب. لكن اللعبتين، ما زالتا ضمن المعقول المتاح. إلا أن الشح المالي المتمادي جعل من عالم الرهانات في لبنان يتطور إلى منحى مختلف تماماً عن التسلية، ليصبح عالماً قائماً في ذاته، يحتاج إلى الكثير لشرح تفاصيله والحيثيات التي يعرفها العاملون بها. والرهان أنواع، كما لعب الميسر أو القمار أنواع.

والمفارقة انه في ظل الأوضاع الصعبة ما زال أكبر مجالين مفتوحيْن للمراهنات والألعاب، مثل كازينو لبنان وميدان سباق الخيل الذي ما زال يَجري كل أحد حيث زبائن الرهانات معروفون أكثر بحسب أعمارهم، يعملان في شكل عادي.

وإذا كان كازينو لبنان الأول من نوعه في المنطقة، يعطي صورة مشرقة ذهبية عن الرجال باللباس الرسمي والنساء يرفلن بأثواب حريرية، وعن نجوم لاعبي القمار في الأفلام السينمائية، إلا أن الصورة اليوم لا تبدو ناصعة إلى هذا الحد، بعدما صار مقصداً لذوي دخل محدود، لا سيما اولئك الذين يدمنون لعبة محددة كالروليت التي ما زال الرهان عليها محدداً بالليرة بنسبة مخفضة إذ لا يقل عن خمسين الف ليرة والحد الأقصى يصل إلى ثلاثة ملايين. وهذا الأمر يغري الكثيرين بعدما أصبحت هذه المبالغ أقلّ بكثير من قيمتها الفعلية، في حين تصل في بعض الصالات والألعاب إلى نحو عشرة ملايين ليرة.

تختلف أنواع الرهانات وطرقها، من الكازينو إلى الرهان على كرة القدم، وهي باتت الأكثر شيوعاً، في صفوف الشبان، الذين يراهنون بنسب أموال تراوح بين مئة ألف ليرة إلى عشرة ملايين ليرة. وهذه الرهانات بدأت قبل أكثر من ثلاثة أعوام، لكنها اليوم تجتاح أكثر فأكثر ذوي الرواتب المنخفضة، حتى أنها تطال الذين يراهنون بتعويضاتهم، متوهّمين أن في إمكانهم الحصول على مكاسب مالية تساعدهم في الأوقات الحالية الصعبة.

والرهانات لا تتم فقط عبر مكاتب دولية أو مواقع دولية متخصصة، بعدما نشأت في لبنان مكاتب مراهنات موزَّعة في عدد من المناطق. وغالباً ما كانت القوى الأمنية تدهم هذه المحال غير المرخصة، التي أصبحت معروفة بالنسبة إليهم، لكن في الأوقات الراهنة تراجعت إلى حد الصفر عمليات دهم هذه المحالالتي باتت تستقطب أكثر فأكثر مجموعات المراهنين، حتى ان أحد المكاتب يمكن أن تصل رهاناته في اليوم الواحد إلى خمسين مليون ليرة كحد أدنى.

وأرباح مكاتب المراهنات كبيرة، إذا تبلغ في حال فوز الزبون نحو عشرين في المئة، وربْحها مؤمن في حال الخسارة أيضاً. علماً أن المراهنة بالدولار يقابلها دفع بالدولار الكاش وهذه اليوم أفضل طريقة للحصول على الدولار. أما الزبائن فيضاعفون قمية رهاناتهم عند كل فوز، خصوصاً أولئك الذين يَطْمَئنون عند أول فوز إلى تسديد مستحقات لهم. فهناك أباء يعتمدون في شكل كلي على المراهنات لتسديد أقساط مدرسية أو مصاريف عائلاتهم.

تشكل المراهنات جانباً أساسياً من جوانب البحث عن المال، في ظل الإنهيار الحاصل، في مقابل دخول اللبنانيين عالم العملة الرقمية وسوق الأسهم العالمي لزيادة مواردهم. صحيح أن التعامل بالنقد والأسهم ليس مراهنة، لكن الإستثمار فيه يعطي فكرة عن واقع اللبنانيين الذين يبحثون عن أي مورد رزق إضافي، وما يمكن أن يُحْدِثَهُ هذا النوع من التعامل من خسائر وردود فعل بسبب الخيبات والقلق الدائمين.

وقبل نحو شهرين ضجت بيروت بخبر تعرض لبنانيين لخسارة تقدر بـ 125 مليون دولار نتيجة احتيال موقع للعملات الرقمية تبيّن إنه موقع احتيالي. لم تُعرف دقة الرقم الذي تم تداوله، لكن المواقع النقدية الرقمية الجدية باتت معروفة ومحصورة بعدد منها على سبيل المثال "بيتكوين، الأشهر، ايثريوم ETH، باينانس كوين BNB... وغيرها من العملات الرقمية التي يسعى اللبنانيون إلى الاستحواذ عليها وتحصيل أرباح فيها. فترى أحد الذين يعملون في هذا المجال منكبّاً على هاتفه الخاص لملاحقة أسعارها ونقاط صعودها أو هبوطها. وأهمية هذا التعامل حالياً، وفي ظل تعذر تأمين المصارف للدولارات، إنها وسيلة لتأمين دولارات طازجة من خارج لبنان مباشرة إلى الشاري، مهما كانت قيمة المبلغ.

... تعددت الوسائل والغاية واحدة، بعدما فقدت الليرة وهجها، وصار اللبنانيون «يراهنون» على أي شيء، وحتى على الأوهام، كأنهم يريدون أن يأمنوا غدْر المستقبل.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي