مجرد رأي

قلم الحكومة... حبر

تصغير
تكبير

في أحيان كثيرة ينشغل صُنّاع القرار بالتفاصيل، أكثر من أيّ شيء آخر، رغم أن الشيطان يكمُن في التفاصيل كما قال ذلك البريطانيون.

وما يزيد تحديات هذه الحالة أن الغرق في التفاصيل يُفقد صانعي القرار ميزة سرعة حل المشكلة الذي يُعد أجدى للجميع من الغرق في بحر الأسئلة، التي لا تخلو قائمتها محلياً من السؤال عن السبب والمسؤول وكيف حدث ولماذا حدث، وغيرها من الاسئلة الجدلية التي تفرض نفسها على السؤال الأكثر حتمية كيف نحل المشكلة؟

هناك قصة مشهورة تحكي عن الصراع الفضائي، حيث تتحدث عن مشكلة واجهها رواد الفضاء الأميركان معنية بصعوبة الكتابة بقلم الحبر في الفضاء، والسبب انعدام الجاذبية، بالتالي لم يكن الحبر ينزل إلى رأس القلم.

ولحل المشكلة -بحسب القصة المتداولة- أنفقت وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» ملايين الدولارات على بحوث استغرقت وقتاً طويلاً، نجحت من خلالها في إنتاج قلم يكتب في الفضاء، وعلى جميع الأسطح وفي كل الاتجاهات.

وتقول القصة، بأنه في الوقت الذي أضاع الأميركان فيه الوقت والمال والجهود على صناعة هذا القلم الفضائي، كان رواد الفضاء الروس قد تفوقوا على المشكلة دون أن يكلفهم ذلك وقتاً ولا مالاً، وذلك لأنهم استخدموا «قلم الرصاص» للكتابة في الفضاء، وهنا بيت القصيد.

تذكرنا هذه القصة بالواقع في الكويت، الغنية بطبقات الدراسات المتتالية والتي أعدتها جهات استشارية عالمية لمعالجة المشاكل المتجذرة اقتصادياً ومالياً على مر السنين.

لكن المفارقة المضحكة والمبكية في الوقت نفسه، أن المشاكل لا تزال تتوالد محلياً، وما زلنا نواجه مزيداً من التعقيدات غير المستحقة التي ننفق الملايين على تشريحها لمجرد معرفة تفاصيلها، ما يؤشر على استدامة المشاكل.

فعلى سبيل المثال، يعد عجز الموازنة العامة الحدث الأبرز في الكويت منذ نحو 7 سنوات، وتحديداً العام المالي الماضي، حيث بلغ مستويات تاريخية وصلت 10.8 مليار دينار، ما يدعو بالضرورة للاستنفار على كل الأصعدة، خصوصاً أن أول تداعيات هذا العجز الذي يتوسع سنوياً تهديد شبكة الدعوم المحلية.

وبدلاً من تقديم حلول عملية لمواجهة العجز المالي تركز غالبية الحديث في التشكيك بالأرقام، ومن ناحية أخرى على رفض الحلول الحكومية المقترحة ومنها مشروع قانون الدين العام، وفي جانب آخر، تم توجيه كل الجهود نحو البحث عن الأسباب التي أدت لتسجيل هذا العجز الضخم.

ورغم زخم الأسئلة التفصيلية وتدافعها، غاب السؤال الأهم، هل قدم أي طرف حلاً يشابه قلم الرصاص الروسي حتى الآن، ما يُشكّل أم المشاكل التي يتعيّن على الجميع محاصرتها والتخلص منها.

ولعل السبب الرئيس في هذه الحالة الكويتية المنفردة خليجياً، أن صُنّاع القرار حكومياً ونيابياً يجنحون غالباً إلى التفاصيل، أكثر من البحث عن حل المشاكل القائمة، وبالطبع لا يعني ذلك التقليل من أهمية محاسبة المخطئ أو المسؤول عن المشكلة، لكن يتعيّن ألّا يكون ذلك على حساب حل المشكلة نفسها، لأن بقاءها سيكون مكلّفاً مالياً وتنموياً وبشرياً، كما أن نتائج البحث في التفاصيل غير مضمونة.

الخلاصة: لا يعني هذا النقاش تأييد مقترحات الحكومة أو رفضها، وكذلك لا يعني توجيه دعوة مستترة للتخلي عن واجبات الدولة بمؤسساتها كافة في حماية المال العام، ومعاقبة المخالف، لكن ينبغي أن يوازي ذلك مساراً يقود لتقديم حلول ناجزة للمشاكل التي نواجهها، حيث وقتها ستتآكل المشاكل المتراكمة وتفقد قدرتها على إنجاب المزيد من المعوقات والضغوط غير المستحقة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي