اقتصاد أسواق الاستهلاك والدولار... «مين بيزيد»؟
لبنان: السياسة تبطل مفاعيل تدابير «المركزي» لكبْح تدهور الليرة
كشفت التقلبات الحادة في المبادلات النقدية العقمَ شبه التام للتدابير التقنية التي يتخذها البنك المركزي للحد من توالي انهيارات سعر صرف الليرة اللبنانية كما أعادت تأكيد المؤكد لجهة أن المناخات العامة، ونواتها الأوضاع الداخلية المتردية، تحوز الثقل النوعي الأكبر في تحديد المسارات كافة، بما يشمل خصوصاً توجهات العرض والطلب على الدولار الأميركي.
ولم يفلح التحرك الليلي الذي عمّم معطياته مصرف لبنان (الثلاثاء) في تهدئة العمليات النقدية في الأسواق الموازية. إذ أظهرت الوقائع تفاعلاً جزئياً في المبادلات الصباحية ارتدّ معها سعر الدولار من سقف قارب 29 ألف ليرة إلى عتبة 26 ألفاً. ثم ما لبث أن استعاد وتيرة الصعود ليتخطى سريعاً عتبة 27 ألف ليرة وصولاً إلى 27700 ليرة عصر اليوم، وسط تَفاقُم مشهود في فوضى التسعير سواء من خلال شركات الصيرفة والصرافين المتجولين أو عبر لوائح التطبيقات الالكترونية على الهواتف الذكية.
ويقضي التدبير الطارئ بقيام البنك المركزي بتزويد المصارف العاملة بحصتها النقدية لما تبقى من هذا الشهر بالدولار الأميركي النقدي بدلاً من الليرة اللبنانية، وذلك وفق سعر صرف منصة «صيرفة» ( بلغ 23 الف ليرة لكل دولار أول الاسبوع الحالي)، مع لفت النظر إلى أنه سيطلب من المصارف بيع الدولارات المشتراة على سعر «صيرفة» كاملةً الى مختلف عملائها عوضاً عن الليرات اللبنانية التي كانت مرصودةً لدفعها بالليرة.
كذلك يقضي بتنظيم سداد القروض التجارية بالعملات الأجنبية نقداً بالليرة اللبنانية على السعر المحدد في التعميم 151، أي 8 آلاف ليرة حالياً للدولار الواحد «ما يساعد على خفض الطلب على الدولار ويزيد الطلب على الليرة اللبنانية في الأسواق».
وأبلغ مسؤول مصرفي إلى «الراي» أن استجابة البنوك للتدبير هي رهن المشاورات حول آليات الحصول على السيولة بالدولار. لكن الفاعلية المأمولة ليست كبيرة باعتبار ان ضخ الكميات يلزمه إعدادات لوجستية وتوضيحات تتطلب يومين على الأقل، ومهلة التنفيذ محددة مسبقاً بنهاية الشهر الحالي، أي نحو أسبوعيْ عمل يتخللهما عطلة عيد الميلاد والاقفال التقليدي للبنوك في آخر يوم من كل سنة.
كذلك يوضح المسؤول «الكل يدرك ان يد البنك المركزي النقدية باتت مغلولة«في قدرات السيطرة على حركتيْ العرض والطلب، بعد نضوب مخزون الاحتياطيات الحرة من العملات الصعبة، فيما يَبْرز عجز الدولة صارخاً عن ضخ مبلغ 500 مليون دولار في بطاقات تمويلية لمصلحة نحو 500 ألف أسرة من الأشدّ حاجة للحد الأدنى من التوازن المعيشي، وتتكئ حتى إشعار غير معلوم على قرض البنك الدولي الميسر البالغ نحو 246 مليون دولار الذي سيلبي التمويل عينه لنحو 170 ألف أسرة من فئات «الفقر المدقع» لمدة عام كامل.
وبحسب استطلاعات ميدانية، فإن التفاعلات الفوضوية في أسواق الاستهلاك تتعدّى فوراً بنسب تفوق 20 إلى 30 في المئة نسبة ارتفاع الدولار، بينما تتريث طويلاً في الارتداد عند حصول تحسُّن في سعر صرف الليرة. وهي تعتمد حصراً قاعدة السعر المعلَنة عبر التطبيقات الهاتفية، مما يبدّد استهدافات منصة العملات العائدة للبنك المركزي التي تتكفل»نظرياً«بإمداد التجار والمستوردين بسيولة من الدولار النقدي بكميات تفوق 25 مليون دولار أسبوعياً وبسعر يقلّ بنسبة تقارب 20 في المئة عن السعر الرائج.
في الاستنتاج، يشير المسؤول المصرفي الى ان التداعيات السوقية ستظل خاضعة بشكل أساسي لتداخُل العوامل المسبِّبة وذات المنشأ السياسي حصراً.
ومن البديهي في ظل ما نشهده من تراكم وتكثيف في تعقيدات المشهد الداخلي وعلاقات لبنان الخارجية، أن تتهيأ أفضل الأجواء لتَفاقُم الفوضى النقدية وتأجيج المضاربات على العملة الوطنية، وحصاد ما تفرزه من موجات تضخمية في أسعار السلع والمواد والتي وصلت الى سقف 2000 في المئة في سلة الغذاء والمشروبات والألبسة والأحذية وسواها من أبواب الانفاق الرئيسية والتي لم يتبق من جدران حمايتها سوى بدلات الخدمات العامة من كهرباء ومياه واتصالات ورسوم، وهي في طور تعديلات جسيمة في مشروع موازنة العام المقبل. في الأثناء، ستواصل السلطة النقدية، بحسب تقدير المصرفي، محاولات فتح ثقوب متجاورة في الجدار السميك لتَراكُم الأزمات والخيبات.
ويقتضي التنويه في هذا السياق بالجرأة على اتخاذ القرار المفصلي بعدم المساس بالتوظيفات الالزامية للبنوك لدى البنك المركزي والبالغة نحو 13 مليار دولار، كابحة بذلك شهية الانفاق المتمادي الذي تسبّب بتبديد نحو 14 مليار دولار على سياسات دعم عقيمة خلال سنتين متتاليتين، عبر إلزام «المركزي» بقرارات اتخذتها السلطة التنفيذية على أعلى المستويات، وزادتها بلاء وبلّة بتحميل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مسؤولية «تجويع» اللبنانيين من دون بذل أي جهد لتوصيل هذا الدعم المفرط لهم.