مِن ديكتاتورية الصوت الواحد إلى... السَّوْط الأوحد!!

تصغير
تكبير

كانت رسالة الرئيس الراحل الياس سركيس، حين شارك بأول قمّة عربية في الرياض بعد توليه الرئاسة عام 1976، أنّه ليس من العدل أن تبقى الجبهات العربية صامتة وأن يظلّ الجنوب اللبناني مشتعلاً مع إسرائيل، نتيجة تواجد المقاومة الفلسطينية المسلَّحة في الجنوب.

كان جوهر الأزمة يكمن في ثنائية القوة العسكريّة، بين الدولة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية والتي شكّلت بتنظيماتها المسلّحة دولة ضمن دولة، في حين كانت الدول العربيّة المواجهة لإسرائيل تحكم قبضتها على التواجد الفلسطيني على أراضيها (سورية والأردن) ودول عربية أخرى تدعم المقاومة الفلسطينية معنويّاً ومادياً مغتبطةً لغياب تواجد فلسطيني مسلّح على أراضيها.

كانت الأزمة عربيّة، لذلك لجأ لبنان إلى العرب. وما أشبه الأمس باليوم!! فبلاد الأرز تقع ضحيّة ثنائية القوة العسكرية بين الدولة و«حزب الله» - الوكيل المعتمد لطهران - مع الفارق أن «حزب الله» أضحى دولة ضمن اللادولة على عكس ما كان عليه الوضع في السبعينيات من القرن الماضي حين كان لا يزال للدولة وجود!!

والسؤال المُؤلِم والموجِع، إذا كان لبنان لجأ إلى العرب لحل ثنائية الدولة والمقاومة الفلسطينية على أساس أن القضية عربية - عربية، مع العلم أن لبنان لم يتوصل إلى حل لتلك الإشكالية إلا بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، فهل قدر لبنان أن يلجأ إلى فرنسا - ايمانويل ماكرون والمجتمع الدولي لحل التداعيات والآثار السلبية المُنهِكَة والمُؤلِمَة على كل المستويات على البلد لتداعيات ثنائية الدولة - «حزب الله» على أساس أن المشكلة لبنانية - إيرانية؟ وإلى متى ستظلّ فرنسا والمجتمع الدولي يكترثان لحالنا المُزري في ضوء مستجدّات في العالم أكثر إلحاحاً، علماً أن قراري مجلس الأمن 1559 و1701 أوجبا حصر السلاح بيد الدولة وحدها؟

أضحى نشوء «حزب الله» في لبنان معروفاً لكن وباختصار وللتذكير، فبُعَيد الاحتلال الأسرائيلي عام 1982 وبرعاية السفير الإيراني في دمشق علي محتشمي، بَدَأ العمل على تجنيد شبانٍ من منطقة البقاع ينتمون إلى الطائفة الشيعية الكريمة، وإنشاء معسكراتِ تدريب على مختلف الأسلحة بحجّة مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ولاحقاً تحويل لبنان إلى ساحة لمواجهة واشنطن والغرب، فتمّ تفجيرالسفارة الأميركية في الرملة البيضاء عام 1983 واقتحام مقرّ تواجد قوات الماريز والقوات الفرنسية الأمر الذي أفضى إلى مقتل 241 جنديّاً أميركيّاً و58 من الجنود الفرنسيين وبالتالي انسحابهم من لبنان.

ورُبَّ قائلٍ انه لو لم تنسحب واشنطن من لبنان يومذاك لما وقعت بلاد الأرز تحت سيطرة إيران وسورية.

أضحى بيننا حزب ديني مُسلَّح يأتَمِر بتوجهات طهران العسكرية والدينية (مبدأ ولاية الفقيه، والإمامية الاثني عشرية، وتصدير الثورة علماً أن هنالك من خالف ذلك كالإمام محمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله والذي تعرّض لمحاولة اغتيال عام 1989).

رفعنا القبعة لجهود وتضحيات «حزب الله» في دحر العدو الإسرائيلي عام 2000، مع العلم أن ثمة من يقول إن اسلوب المفاوضات في ظل الواقع الإسرائيلي آنذاك كان بالإمكان أن يُثمِر لكن منذ 2006 - حرب «لو كنت أعلم» ضد اسرائيل وسكوت المدافع، من يومها إلى حينه تكرَّس أكثر فأكثر دور«حزب الله» كذراع عسكرية في خدمة طهران، وتجذَّر دوره السلطوي في الداخل اللبناني.

في تصريحٍ جديد لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، قال وليد جنبلاط «نحن هانوي إيرانية، ولسنا فيتناميين او لبنانيين، هانوي إيرانيون والسبب هو أن البلد تحت السيطرة والهيمنة الإيرانية من خلال(حزب الله)»(«النهار» 4-12-2021).

إذا كان لبنان بلد الاختلاف لأنه قائمٌ على تعدُّد الطوائف وحريّة الرأي،«فحزب الله»يسعى لطمس هذا الاختلاف لأحاديّة سياسيّة تستقوي بسلاحها وتتكئ شرعيّتها على دعم نظام ولاية الفقيه في طهران، لخدمة مصالحه الإقليمية.

ولقد نجحت طهران، مع الأسف، بتقديم هدية ثمينة لا تُقدَّر بثمن للعدو الإسرائيلي، ألا وهي زعزعة أربعة مجتمعات عربية: اليمن، العراق، سورية ولبنان. لن تستقيم الأمور أوّلاً، في ظل اعتماد«حزب الله»من خلال سلاحه على التمييز المُمارَس ضد الطوائف والمجموعات الأخرى في ظل عجز نظام الحكم على بناء شبكة مؤسسات وخدمات تربط الجماعات مصلحيّاً بإطار الدولة.

وثانياً، في استمرار رعاية طهران، خصوصاً العسكريّة لحزبها في لبنان. فالثابت أن جفناً لم يرفّ لـ«حزب الله»للوضع المأسوي والمُزري، المُؤلم والمُوجع الذي يعيشه اللبنانيون... وآخر شاهد على ذلك، تعطيله عمل مجلس الوزراء بعد أسابيع قليلة على تأليف حكومة الرئيس ميقاتي - رغم القرارات الملحّة التي تستوجب انعقاد المجلس - للضغط على طمس التحقيق بانفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020.

وبدلاً من إرسال وفدٌ من المحامين ينتمون إلى«حزب الله»للتظاهر أمام قصر العدل احتجاجاً على مسار التحقيق، تم تجييش مناصرين مسيّرين لاقتحام عين الرمانة مطلقين شعارات مذهبيّة لو سمعها سيدنا الحسين لقال«أنا برّاء منكم. لستم مني ولستُ لكم!».

ويبدو أن«حزب الله»لا يدري أنه كلما عارض التحقيق، كلما ازدادت الشكوك وترسَّخت القناعة عند الناس - العامة منهم والخاصة - أنه كان وراء جلب نترات الأمونيوم إلى المرفأ وإرسالها إلى الأسد الابن لاستعمالها كقنابل حارقة كما لمَّح سابقاً جنبلاط.

والسؤال هو:«لماذا لا يترك (حزب الله ) التحقيق يأخذ مجراه الطبيعي؟ ولماذا يتهيَّب الحزب ويسعى لإبعاد التهمة عنه وتوجيه الاتهام، كالعادة إلى واشنطن بأنها وراء التحقيق!! طالما أنّه معتمدٌ على سلاحه وبإمكانه إجهاض ما يكفي من ذرائع لإعلان براءته؟».

ولعلّ الجواب أنه في حال ثبوت التهمة عليه، فقد يتعرَّض مع راعيه الإيراني لعقوبات دولية مزلزلة أقل ما توصَف بالقاسية والموجِعَة. وبما أن الشيء بالشيء يُذكَر، فقد استعرضَ سابقاً «حزب الله» عضلاته ورفض تسليم سليم عياش بعدما دانته محكمة دولية بالضلوع باغتيال الرئيس رفيق الحريري، فكان التصريح الناري لأمين عام «حزب الله» بأنه لن يسلّم عياش في حينه ولا بعد 3 سنوات أو حتى بعد 300 سنة... بل أكثر من ذلك تم تعليق صور عياش على طريق المطار وفي خلدة، الأمر الذي تسبب بإشكالات مع أبناء المنطقة.

يستقلّ «حزب الله» بمشاريعه ومؤسساته وأمواله وسلاحه عن الدولة والبلد، وهذا نادراً ما تشهده دولة مستقلّة، بل هو إن حدث يُعتبر خيانة في أي بلد آخر... ولا ينحصر نشاط «حزب الله» بعدما تمدّد في بقاع العالم على النشاط العسكري بل أيضاً يتمدّد إلى أنشطة متعددة غير مشروعة كالاتّجار بمنتوجات غير شرعيّة إضافةً إلى تهريب البضائع والأدوية والمواد الغذائية عبر عشرات المعابر البريَّة بين سورية ولبنان ومرفأ بيروت ومطار رفيق الحريري وتبييض الأموال، وكل ذلك يقع ضمن النشاطات الخارجة عن القانون التي تمارسها المافيات العالمية من «الكوزانوسترا» الإيطالية و«الياكوزا» اليابانية والتي نشأت في معظمها كمقوّمات شعبية ضد الاحتلال الأجنبي.

والقاسم المشترك بين المافيات وما يُسمى بميليشيات المقاومة امتلاكها شبكة معقّدة من المؤسسات الاجتماعية والتربوية والاستشفائية. فأثناء كارثة تسونامي التي ضربت اليابان كان «الياكوزا» في بعض الأحيان أفعل وأنجع في مساعدة المدنيين من مؤسسات الدولة اليابانية، وهذا ما يفعله «حزب الله» من خلال بطاقات الإعاشة (بطاقة ساجد) التي يوزّعها وحملات التلقيح واستيراد المازوت عبر المعابر غير الشرعية، إلخ...

يتحكم «حزب الله» بالعباد والبلاد، من خلال سلاحه، ويصبّ اهتمامه على مواضيع معيّنة ويغفل أخرى تبعاً لمصالحه.

لذلك، نادراً ما نقرأ بياناً حول فضيحة الكهرباء والتي كما يُجِمع المراقبون أنها أفضت إلى هدر ما يقارب 40 مليار دولار، والمطالبة بمساءلة القيّمين على قطاع الكهرباء... لكن للفساد منافع متعددة - تعود بالفائدة على الحزب - بدليل ما نتج عن الفساد المستشري في العراق... فوفقاً لمنظمة الشفافية الدولية يأتي العراق في المرتبة 160 بين 180 تُعاني من الفساد في العالم.

سفير مُعتمَد في لبنان قال لي إن حجم الفساد في العراق والذي تجاوز 600 مليار دولار كان بإشراف من طهران - الوصية على الأمور في العراق - وذلك لتمويل «الحشد الشعبي» في العراق، الحوثيون في اليمن، و«حزب الله» في لبنان.

وإذا كان نصرالله حريصاً على موضوع معالجة غلاء الأدوية في لبنان، كما جاء في خطابه الأخير، فالأَوْلى به أن يعيد موارد تهريب البنزين والأدوية وغيرهما من البضائع إلى سورية إلى المصرف المركزي!

سؤال المليون دولار، لا بل مجموعة الأسئلة: متى يتخلّى «حزب الله» طوعاً أو قسراً عن سلاحه ويتحوّل إلى حزب مدني وسياسي له كل الحق في أن ينشط سياسيّاً كبقية الأحزاب السياسية ليلقى من جميع اللبنانيين كل الترحيب، خصوصاً بعد سكوت المدافع مع العدو الإسرائيلي منذ 2006 واستمرار سكوتها إلى أجل غير مُسمّى، اللهم إلا اذا تعرّضت طهران لعدوان إسرائيلي؟

وبناءً على ما قاله اللواء علي مُعلي رشيد قائد «مقرّ خاتم الأنبياء» التابع للحرس الثوري الإيراني، فإن قاسم سليماني أنشأ محوراً من ستة جيوش، منها «حزب الله» للدفاع عن إيران. والسؤال الآخر إذا سلّمنا جدلاً بأن القرار النهائي يعود إلى الراعي الإيراني، فهل من مصلحة طهران والتي أنفقت مليارات الدولارت على «حزب الله» التخلّي عن الطابع العسكري للحزب؟

كشف محمد رضا نقدي المساعد التنسيقي في الحرس الثوري العام الماضي، أن إيران أنفقت على مدى الثلاثين عاماً الماضية 17 مليار دولار على الأنشطة الدفاعية والثقافية في المنطقة، (رويترز) ما سبق يستدعي سؤالاً آخر، ما الذي يجعل طهران تُقدِم على ذلك؟

لنعتمد على الأحلام الوردية ونفترض أنه تم الوصول إلى ما يلي: اتفاق نووي مع واشنطن، تطبيع العلاقات مع دول الخليج، تسوية الوضع في سورية، تخفيف حدّة الصراع بين دول المنطقة وإسرائيل، ترسيم الحدود البحريّة معها... إذا حدث كل ذلك، هل تتخلّى طهران عن عسكرة«حزب الله»؟

يقيني أنها لن تتخلّى عن حصاد ما زرعته منذ عشرات السنين.

لذلك لا يبقى إلّا الاتكال على النّفس والحل الوحيد المُضني، لكنه يشفي الغليل: النضال السياسي والعمل الدؤوب لهدف إيجاد بيئة شعبية وطنية جامحة، مُتراصّة، مُتحالفة، تسعى وتضغط واستتباعاً تنجح في الوصول إلى تحويل«حزب الله»إلى حزب مدني.

في ستينيات القرن الماضي وُجِّه اللوم إلى حركات اليسار في لبنان بأنها استسهلت العمل في البيئات الخصبة والمهيّئة لتقبُّل توجيهاتها، بدلاً من العمل الدؤوب في البيئات المحافظة، لإقناعها بطروحاتها. ويبدو أن الأمر مشابهٌ اليوم فلابد من النضال السياسي الحثيث، خصوصاً في بيئة«حزب الله» لإقناعها بأن عسكرة الحزب واستمرار خدمته لمصالح طهران تسبّبان لها الأضرار قبل أي بيئة أخرى، ولاسيما في ضوء التدهور المريع للأوضاع المعيشية. صحيح أن انتفاضة 17 أكتوبر 2019 خُمِدَت، لكن الصحيح أيضاً أنه من الضروري إبقاء شعلتها مشتعلة والعمل على أن تتوهّج ولو ببطء!

اثر انتخاب الرئيس الراحل سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية (17 أغسطس 1970) بفارق صوت واحد ضد المُرشَّح آنذاك الرئيس الياس سركيس، كتب الراحل الكبير غسان تويني مقالاً عنونَهُ بِـ«ديكتاتوريّة الصوت الواحد»التي أفضت إلى انتخاب فرنجيّة رئيساً.

(الجدير بالذكر أن تويني الذي جَهِدَ وجاهد في انجاح فرنجيّة عاد ونَدِمَ على ذلك. فرغم كل ممارسات ما كان يُسمّى«المكتب الثاني»لم يجرؤ جهاز الاستخبارات المذكور على ما فعله فرنجية بجريدة«النهار»حين ضغط الأمن العام بإشراف الضابط زاهي البستاني على وكالات الإعلان عام 1972 لمنع نشر إعلاناتها فيها.

أورِدُ حرفيّاً ما نقله جهاد الخازن نقلاً عن تويني، قال لي: «غلطنا وإن سليمان فرنجية لا يُصلِح أن يكون مختاراً في ضيعة أو قرية»،«آخر أمراء الصحافة اللبنانية»،(«الحياة»، 6-9-2012).

وإذ أورد ما سبق فلكي أُذكِّر بأن الديموقراطية اللبنانية مع كل عيوبها وسلبيّاتها تكون ناجحة ومفيدة في تغيير المسار السياسي للبلد، فلم يتوقع أحد أن صوتاً واحداً سيؤدّي إلى فوز فرنجيّة، ويُشكّل مع الأسف انتكاسة للمسيرة الإصلاحية والسياسية الحكيمة للراحل الكبير الرئيس فؤاد شهاب.

عام 1970 ارتضى اللبنانيون بديكتاتورية الصوت الواحد فهذه سُنّة الديموقراطية. لكننا مع الأسف انتقلنا اليوم من ديكتاتورية الصوت الواحد... إلى ديكتاتورية السَّوط الأوحد!

آن الأوان للأصوات اللبنانية الحرّة أن تفعل فعلها، فالرِّهان على الديموقراطية اللبنانية والضغط الشعبي سيؤديان لاحقاً إلى ما نصبو إليه، فنضع حدّاً ونشهد نهاية لضربات هذا السَّوط الذي يتم به جلد لبنان واللبنانيين خدمةً لمصالح الخارج.

ولمن لا يعرف، يجب التذكير أن قدر لبنان، هو من قدر ذلك الحصان العربي الأصيل الذي مهما تواصلت الأسواط عليه سيرفض في النهاية.... أن يحني رأسه!

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي