مُنذ سنوات عدة مضت، عندما كنا ندرس مادة (الملاحة الفلكية) وهو أحد العلوم التقنية لتحديد المواقع في البحار والمحيطات عند عبور السفن، وذلك باستخدام جهاز (السدس) لتحديد زاوية الارتفاع بين أيّ جرم سماوي، سواءً أكانت الشمس أو القمر، أو أحد النجوم وبين الأفق المرئي، وهي عملية حسابية يقوم بها الضابط البحري لتحديد الموقع الذي تتواجد فيه السفينة، وحدث أن جرى نقاش بين الطلبة والأستاذ حول تلك المادة العلمية، وكنت ممَنْ شارك في هذا النقاش فسألت أستاذ المادة لماذا التركيز على العلوم التقليدية القديمة، وعدم الاعتماد كلياً على التكنولوجيا الحديثة لتحديد الموقع باستخدام جهاز الـ(GBS)، وهي تقنية حديثة وعلى مستوى عالٍ من الدقة لا مجال لوقوع الخطأ فيها، فبمجرد إدخال البيانات في الجهاز وخلال ثوان معدودات نتمكّن من تحديد الموقع، وكذلك حساب زمن الوصول للهدف المراد الوصول إليه، وبذلك نوفّر الجهد والوقت في آن واحد.
وبكل علم وثقة وهدوء، وافقني على رأيي قائلاً لي بأنّ ما ذكرته صحيح، فانتشار الأقمار الاصطناعية في الفضاء خدمت تلك المنظومة الحديثة وأصبح الأمر سهلاً، إنما الأمر الأهم من كل تلك الأجهزة هو تأهيل العنصر البشري العامل على السفينة وتدريبه على طريقة تحديد ومعرفة المواقع اعتماداً على النجوم والأجرام السماوية، ثم يأتي بعد ذلك دور التكنولوجيا الحديثة والاستعانة بها - فالعنصر البشري هو الأهم في هذا الموضوع.
وهنا ملاحظتان مهمتان لتوضيح هذا الأمر:
1 - عدم الاعتماد كلياً على التكنولوجيا الحديثة والتخلي عن العلوم التقليدية خوفاً من تعطلها مما قد يُسبّب لنا الكوارث التي نحن في غنى عنها، ففي حالة اننا كنا مبحرين في عرض البحر وحصل عطل في الأقمار الاصطناعية التي تنقل البيانات لأجهزة الـ( GBS) ولم نكن مدربين على كيفية استخدام جهاز السدس لتحديد المواقع تقليدياً كما كان يفعله أجدادنا الأسبقون، هل سنتمكن من تحديد موقعنا في هذا المحيط الهادر اللامتناهي، أم سنكون تائهين في المحيط تتلاطمنا الأمواج الرهيبة، فنكون لقمة سائغة لهذا الامواج؟
2 - أيضاً، يجب أن نعلم أن هذه التكنولوجيا الحديثة هي تحت تصرف وتحكم دول متقدمة آخذة بزمام هذه التقنيات التكنولوجية، وعلى علم بكل تفاصيلها وكيفية تعطليها أو اللعب بها، ما الذي يضمن لنا عدم قيامها بتعطيل هذه التكنولوجيا عند حدوث أيّ خلاف مع هذه الدول.
لهذا، فإن دراسة ومعرفة الطرق التقليدية للملاحة أمر أساسي للضباط العاملين على متن السفن لمواجهة أيّ طارئ قد يحدث.
وبالفعل، فإن هذا الأستاذ الذي تقبّل وجهة نظري ووافقني على رأيي يستحق كل تقدير واحترام، وكذلك جعلنا ننظر إليه كأستاذ مقتدر متمكّن من العلم الذي يحمله.
- عندما نرى الواقع الذي نعيش فيه، نجد الاعتماد الكلي على التكنولوجيا الحديثة والأجهزة الذكية، وإهمالنا للتقنيات القديمة التي اعتمد عليها الانسان لآلاف السنين، عندما لم يكن للتكنولوجيا الحديثة أيّ دور في حياة إنسان ذلك الزمن، وهذا يدق جرس الإنذار لنا بأن اعتمادنا الكلي على التكنولوجيا الحديثة بصورة تامة خطأ كبير وكارثة عظيمة - فما الذي يضمن لنا عدم تعطل هذه التكنولوجيا الحديثة لأيّ سبب من الاسباب؟
مثال على ذلك: أرقام الهواتف والتي كنا نحفظ بعضها عن ظهر قلب، وأكثرها نقوم بتدوينها في كتيب صغير نحتفظ فيه بالجيب - وأصبحنا نعتمد كلياً على ذاكرة التلفون، فمَنْ الذي يضمن لنا عدم فقداننا لهذا التلفون أو اختفاء البيانات منه بسبب عطل إلكتروني، فيتسبّب هذا عن انقطاعنا عن المحيط الذي نتواجد فيه بعكس ما اذا كنا نحمل في جيوبنا ارقام مَنْ نعرفه من معارفنا لنتدارك المأزق الذي وقعنا فيه فنقوم بالاتصال به ليسرع بمد يد المساعدة إلينا - فنحن عند انتقالنا من منطقة إلى أخرى أو عند التسوّق أصبح اعتمادنا الكلي على تلك الأجهزة الذكية باستخدام (خارطة غوغل)، وأهملنا الاعتماد على استخدام عقولنا وقراءة اللوحات الإرشادية، وتركنا الطريقة التقليدية في القراءة الورقية، واعتمدنا على القراءة الالكترونية، والأمر الأكثر سوءاً هو اعتماد أبنائنا على هذه الاجهزة الالكترونية وتعلقهم بها بشكل متزايد ومفرط حيث يمضون جُل وقتهم في استعمال هذه الأجهزة، وللأسف فإن هذه العادة لها الكثير من الآثار السلبية التي ستنعكس عليهم في المستقبل، منها على سبيل المثال النسيان ونقص المهارات المعرفية التقليدية والكسل.
فالتقدم العلمي والتكنولوجي مهم للغاية، ولكن إهمال القدرات الذاتية والقوى الفكرية أمر في غاية الخطورة، الاديان السماوية تدعونا إلى استخدام العقل وتنميته بالعلم، واستخدام القوى الذهنية بطريقة أمثل، فتعطيل الفكر يفقد التميز بين الأفراد، في حين أن تنمية العنصر البشري وتطوير مهارات الأفراد سيمكّن الافراد من الارتقاء بهم وأداء واجباتهم بشكل أفضل.
اللهم احفظ الكويت آمنة مطمئنة والحمدلله رب العالمين.