سيارات كأنها «قنابل موقوتة».. وانعدام الصيانة والإنارة أفخاخ قاتِلة
طرق لبنان.. مقابر مفتوحة والضحايا بالمئات
الموت المتنقّل بات العنوانَ العريض ليوميات اللبنانيين. فالأزمة الكبرى التي تعيشها «بلاد الأرز» بدأت تستولد أزمات صغيرة تتفشى في مختلف جوانب حياتهم وتحصد الضحايا من كل حدب وصوب.
أزمة الطرق والسير في لبنان تحوّلت «وحشاً مفترساً» يصطاد يومياً قتلى وجرحى بوتيرة مضطردة لا تنفك ترتفع مع تدهور حال الطرق وانتفاء صيانة السيارات وتقاقم انهيار أوضاع الناس المالية.
أسماء وأسماء تضاف كل يوم إلى لائحة ضحايا الأزمات المتراكمة والمتناسلة من الأزمة الكبرى التي يعيشها لبنان وتوشّح القرى والمناطق اللبنانية بالسواد.
لا يكاد يمر يوم إلا ويفقد لبنان ضحية او أكثر من شبابه الذين تخطفهم الطرق بلمحة بصر تاركين أهلاً مفجوعين وأصدقاء مذهولين ووطناً يئنّ من أحزان لم يعد قادراً على تحمل أوزارها.
أعداد الضحايا الى ارتفاع وحوادث السير باتت كابوساً حقيقياً مع تَفاقُم أسبابها وفي ظل غياب كلي للحلول بحيث بات السائقون والركاب والمشاة وكأنهم «أمواتاً أحياء» ينتظرون «قرعة الموت» على قارعة الطريق.
في بلد صغير لا تتخطى مساحته 10452 كيلومتراً مربّعاً وشبكة طرق تتركز في غالبيتها في المناطق الساحلية وبعض الطرق الدولية، تشكل أعداد الضحايا أرقاماً صادمة لا تعرفها بلدان أكبر بكثير مع عدد سيارات يفوق بأضعاف ما هو موجود في لبنان. فبحسب الإحصاءات يرصد المختصون ما بين 30 الى 40 ضحية شهرياً وهو عدد مرتفع جداً نسبةً الى مساحة لبنان وعدد سكانه.
في تقييمها الشهري لعدد حوادث المرور في لبنان رصدت الدولية للمعلومات أن نسبة ارتفاع عدد حوادث السير بين شهري أبريل 2020 و أبريل 2021 بلغت 79.5 بالمئة ونسبة الضحايا 68.5 بالمئة. أما نسبة الجرحى فازدادت 66.1 بالمئة.
وبالانتقال من النِسَب إلى الأعداد، يتبيّن وفق إحصاءات غرفة التحكم المروري أن شهر يونيو من هذا العام شهد أعلى عدد ضحايا منذ العام 2017 إذ وصل عدد قتلى الطرق الى 57 شخصاً. وبلغ مجمل عدد الضحايا من شهر يناير حتى اكتوبر من العام الحالي 340 ضحية. وسجّل النصف الأول من 2021 عدد جرحى بلغ 2001 جراء وقوع 1632 حادثاً.
وحَمَلَ شهر أكتوبر وحده وقوع 36 ضحية و267 جريح وتسجيل 223 حادثاً. ولكن هذه الأرقام على قسوتها لا تُعتبر دقيقة جداً إذ أن أرقام الصليب الأحمر اللبناني تفوقها بكثير في ما خص عدد الجرحى والإصابات الذين يتم تسجيلهم يومياً جراء حوادث السير. كما أن الإحصاءات لا تذكر أعداد الضحايا الذين يتوفون لاحقاً نتيجة إصاباتهم الخطرة الناجمة عن تلك الحوادث.
طرق تعاني وأرواح تدفع الثمن
أسباب هذه الظاهرة تتخطى ببعيدٍ التهوّرَ في القيادة كما هو مُتعارَف عليه في كل البلدان، لتنضوي تحت لواء انهيار مقومات الدولة اللبنانية والتراخي المخيف في تطبيق القوانين وتنفيذ الواجبات والانهيار الاقتصادي الشامل الذي يطاول كل نواحي الحياة.
الطرق تحوّلت مصائد للموت و«قبوراً مفتوحة» في غياب الصيانة التام وتعليق مشاريع الترميم وانتفاء الإنارة في غالبية الأوقات. وتتوزع مسؤولية صيانة الطرق عموماً بين البلديات ووزارة الأشغال العامة، وهذه الأخيرة تشكو عدم فتح الاعتمادات لإنجاز الأعمال المتوجبة لصيانة الطرق، والبلديات تئنّ من فراغ صناديقها بعد تأخُّر الإفراج عن أموالها، والمتعهّدون الذين يتولون ورش الصيانة «معتكفون» يطالبون بمستحقات سابقة ولا يتلقونها ويرفضون أي مشاريع جديدة يكون الدفع فيها بالليرة اللبنانية. والنتيجة صيانة متعثرة وحُفَرٌ تغزو الطرق، ومجاري مياه مقفلة بسبب تَراكُم الردميات لا سيما بعد انفجار مرفأ بيروت ما يهدد بشتاء قاتل.
ويأتي ارتفاع سعر صفيحة المازوت ليزيد الأمورَ تأزماً، بحيث لم تَعُدْ البلديات ولا الوزارات قادرةً على تشغيل آلياتها التي تعمل على صيانة الطرق ولا على تشغيل المضخات التي تعمل على شفط المياه من داخل الأنفاق.
... تتراكم الأسباب المؤدية الى حال هريان الطرق وتتوزع المسؤوليات لكن النتيجة واحدة يدفع ثمنها المواطنون من أرواحهم. ويأتي غياب الكهرباء وظلام الشوارع الدامس وعلى الأخص ظلام الأنفاق التي تكثر في مدينة بيروت ومحيطها، ليشكل سبباً رئيسياً للحوادث القاتلة التي تحدث ليلاً. وأبشع دليل على ذلك وقوع قتيل داخل نفق الأوزاعي تهشّمت جثته من بعض السيارات نتيجة غياب الإضاءة عن النفق.
ويقول نبيل كحّالة، رئيس بلدية سن الفيل الساحلية، إن البلدية لم تعد قادرة مثلاً على تغيير مصابيح الإنارة على الأعمدة بعدما بات سعر المصباح مرتفعاً جداً، ولا هي قادرة على استخدام الآليات التي ترفع العمال الى أعلى الأعمدة بسبب فقدان مادة المازوت، هذا إن توافر التيار الكهربائي أصلاً لإنارة الشوارع ليلاً.
أما غياب الإشارات الضوئية فله الأثر الأكبر على ارتفاع عدد حوادث السير. ويقول المهندس المسؤول في غرفة التحكم المروري جان دبغي إن العقد مع الشركة المشغلة لإشارات السير وكاميرات المراقبة على الطرق وعدّادات الوقوف قد انتهى. وعند تجديد العقد رست المناقصة من جديد على شركة الصيانة نفسها، لكنها لم تعط الإذن بمباشرة العمل نظراً لعدم وجود اعتمادات للمشروع، وبهذا توقفت كلياً صيانة الإشارات الضوئية وكاميرات الطرق واللوحات الكبيرة عند مداخل بيروت الثلاثة منذ شهر أبريل 2020 وبدأت الأعطال تظهر تباعاً، وبات ما يزيد عن 80 بالمئة من الإشارات خارج الخدمة وصارت التقاطعات على الطرق في بيروت والضواحي أفخاخاً للسيارات وكاد اجتيازها يتحول «عملية انتحارية» على السائقين و المشاة. علماً أن وجود الإشارات يخفف بنسبة 30 الى 40 بالمئة من الحوادث المرورية.
غياب المرجعيات و انتفاء القدرة على الصيانة
في شرح مفصل لـ «الراي» يقول المحامي زياد عقل رئيس جمعية «يازا» التي تعنى بالسلامة المرورية: «سابقاً كنا كجمعية حين نرصد مشكلة معينة على الطرق نسارع بالطلب الى الإدارات المختصة معالجتها منعاً لحصول حوادث سير. وكانت مطالبنا تُستجاب في غالبية الأحيان. لكن اليوم حين نطالب بإصلاح مشكلة ما نعرف سلفاً أن الاستجابة ستكون سلبية بحجة عدم توافر الإمكانيات المادية».
ويضيف عقل واصفاً حال التقهقر التي تشهدها الطرق: «أتت عمليات السرقة المنظّمة التي طاولت عشرات آلاف أغطية المجاري والقساطل والكابلات والكثير من مقومات البنى التحتية للطرق لتجعل وضعها كارثياً ومحفوفاً بالمخاطر. فالمشكلة الاقتصاية الكبرى التي أصابت لبنان ولدّت عدداً كبيراً من المشاكل الرديفة. وصحيح أن حوادث السير التي شهدت ارتفاعاً في الأشهر الماضية قد انخفض قليلاً في الشهرين الماضيين، لا لسبب لإيجابي بل لأن استخدام السيارات قد تراجع بنسبة كبيرة مع الارتفاع الخيالي في سعر صفيحة البنزين، ولكن هذا التراجع ليس مؤشراً إيجابياً لأن انعكاس الأزمة الاقتصادية على قطاع النقل ككل وحال الطرق وعلى إدارات الدولة المعنية بشؤونها وعلى المواطنين كارثيّ وينذر بتفاقم الحوادث».
أما الناشط في جمعية «حقوق الركاب» فادي صايغ والذي يرصد يومياً حوادث السير وأعداد ضحاياها وأسبابها، فيعزو الأسباب إضافةً إلى ما تَقَدَّمَ لجهة حال الطرق المتردية، الى عنصر آخر يوازيها خطورةً وهو تعذر صيانة المركبات من المواطنين اللبنانيين لعدم قدرتهم المادية على تحمل تكاليف الصيانة. فارتفاع أسعار قطع الغيار وتسعيرها بالدولار الأميركي جعل المواطن يتردد في تغيير فرامل سيارته مثلاً أو إطاراتها أو أي قطعة أخرى فيها. علماً أن أي خلل ولو بسيط في السيارة أو المركبة يحولها «قنبلة موقوتة» يمكن أن تتسبب بحادث في أي لحظة.
وفي هذا الصدد تروى «يسرى» وهي موظفة في شركة تقبض راتبها بالعملة اللبنانية أنها صدمت بأسعار إطارات السيارات حين فكرت بتبديل إطاراتها مع اقتراب فصل الشتاء والأمطار، ووجدت أن راتبها المتواضع لن يكفي لشراء أربعة دواليب جديدة فما كان منها إلا أن استبدلت الإطارات الأمامية بالخلفية وهي تدعو الى الله سبحانه وتعالى أن يحميها من الحوادث المحتملة.
أما مازن وهو سائق سيارة أجرة فيتهدّج صوته ثم ترتفع نبرته بغضب حين يروي كيف أنه لم يعد قادراً على تغيير الزيت في محرّك سيارته، وأنه يعرض حياته وحياة ركابه للخطر حين يسمع أزيز الفرامل على الأسطوانة الحديدية وهو غير قادر على تبديلها....
غضب السائقين وتراخي القوانين
شهاداتٌ كثيرة مثل هذه قد تمتلئ بها صفحات وصفحات، ومشاكل نفسية وعصبية باتت الخبز اليومي لأهل لبنان وتجعل السائقين يقودون مركباتهم وهم في حال من الغضب أو العدائية أو من الذهول والاستسلام ما يجعل ردات فعلهم متسرعة أو بطيئة تتسبب بعدم قدرتهم على السيطرة على آلياتهام. وهذه عوامل تضاف الى لائحة أسباب الحوادث المرورية الكثيرة.
يضيف صايغ: «ان أعداد الضحايا على الطرق لا يقتصر على سائقي المركبات وركابها بل يطال المشاة بشكل خاص، حيث أن طرق لبنان ليست صديقة للمشاة فلا الأرصفة موجودة، وإذا وُجدت فهي غير محترَمة، ولا الخطوط التي تحدد مسار المشاة أو الممرات المخصصة لهم موجودة على الطرق والتقاطعات. كما أن القوانين التي تحدد العلاقة بين المشاة والمركبات غير واضحة وتطبيقُها غير صارم ما يجعل المشاة في خطر دائم ويزيد من عدد الضحايا بينهم».
وتبقى المشكلة الأكبر في لبنان اليوم تراخي القوى الأمنية في تنفيذ القانون. فشرطة السير كما يلاحظ المواطنون غائبة عن غالبية الطرق، ومَحاضر الضبط التي كانت تجرى سابقاً بحق المخالفين قد تراجعت حتى لا تثقل عاتق المواطنين بأعباء مالية جديدة. والتجاوزات التي تحدث على الطرق من المركبات أو المشاة أو الدراجات النارية يتم التغاضي عنها وكأن البلد سائبٌ ولغة القانون فيه غائبة.
ولم يعد مستغرباً مثلاً رؤية دراج يقوم ببهلوانيات مميتة في أحد الأنفاق، أو سيارة نقل تحمل بضائع فوق طاقتها بأضعاف، أو عابِرٌ يجتاز الطريق العام المعتم ليلاً بدل استخدام جسر المشاة؟ وترصد جمعية اليازا يوميا هذه المخالفات وتحذر منها، لكن لا حياة لمن تنادي... وفي بلد يغيب فيه القانون تكثر الضحايا ويُفتح «الطريق السريع» نحو موتٍ يترك وراءه قلوباً «يقتلها» الحزن كل يوم وإلى... آخِر العمر.
دموع الحَرْقة فوق جسد بارد
في سرير مستشفى، كانت تحتضنه كأنّه وُلد للتو. تستعرض شريطَ أحلامٍ لصغيرها إلى أن يصبح عريساً ويُحمل على الأكتاف... وبينها نجاحاتٌ وإخفاقات، آلامٌ وآمال. وفي كلّ منها هي على الموعد إلى أن يحين وقتُ الوداع فيضع الابنُ وردةً فوق ترابٍ تلتحفه الأمُّ بفرحةِ مَن احتضن حياة فلذة كبدها بحُلوها ومُرها إلى أن دقّت... ساعة الرحيل.
ولكن جسد الابن الذي وُلد قبل 24 عاماً كان بارداً. والأحلام لم تكن لِما سيكون بل استعادة لعمرٍ قصير. فبين أحضانها ولآخر مرة طوال الليل الذي «تَجَمَّدَ» فيه القلب والزمن وكل شيء، كان نجلها الذي أبتْ أن «تسلّمه» لـ «برّاد الموت» أو تفلت يديه. أصرّت على أن «يواسيها»، بصمته القاتل، في مصابٍ لم تكن بعد تجرّعتْ كل سمّه. ذرفت من الدموع وفيض الحزن ما يكفي ليُبكي الحجر.
«... حبيبي قوم، احكيني، سافِر شو بدّك فينا، ما رح نزعل، روح شوف مستقبلك برّات لبنان. من يومين تخايلتك ببدلة عرسك، قوم يلا نكفّي نحلم»... ولكن ولَدها لم يفتح عينيْه اللتين كانت ترى الدنيا والغد والأمس واليوم من خلالهما. فهو أطبقهما إلى الأبد، وما ترك لها إلا ذكرياتٍ وصوراً وجرحاً مفتوحاً وقميصاً علّقه بزرّ ناقص أوصاها تقطيبه وهو في الطريق مع صديق له لتمضية سهرة، دون أن يدرك أن الموتَ سيكمن له بـ «كبسةِ زرِّ» حادثٍ سيرٍ أنهى حياته ورفيقه ومعها حياة عائلة طرق الأسودُ بابَها وسرق «فرْحتها» وغمرها بحرْقةٍ... إلى آخِر العمر.
الأمُ الحزينة، التي رافقتْها «الراي» في فاجعتها، لم تعتقد يوماً أن ابنها سيُحمل على الأكفّ في «عرسِ موتٍ» كانت خلاله تبحث عن «روحها» في عيون يعتصرها الوجع ولا تقوى على البوح خجلاً من... دمع أمٍّ.
هي واحدةٌ من أمهاتٍ تربّص الموت بأبنائهنّ وبناتهنّ على طرقٍ باتت أشبه بـ «قبور مفتوحة» في وطنٍ يسلك طريق «جهنّم» منذ نحو عامين، وشعبه متروكٌ لشتى أنواع العذابات و... التعذيب.