ألبان وأجبان وأدوية ونفايات... «تتربّص» بهم أيضاً
... الأمعاء الخاوية ليست خطراً وحيداً على اللبنانيين
الفقر الذي أرخى بظلاله القاتمة على بيوت اللبنانيين، لم يَعُدْ ضيفاً ثقيلاً وحسب يَمنع عنهم اللقمة بل صار وحشاً مفترساً يَتَهَدَّد حياتَهم ويُنْذِر بالانقضاض على صحتهم وسلامتهم.
فشعب لبنان اليوم يعيش تحت تهديد ثلاثة مخاطر كبرى تتّخذ من غذائه ودوائه وحتى نفاياته مرتعاً لها ولا يجد بيده حيلة للاحتماء بها من هذه المخاطر، ولا عند دولته سوى محاولاتٍ متواضعة لدفْع الخطر تصيب مرةً وتخيب مرات ومرات ومرات.
لا تميّز الحاجة في لبنان بين فقير وميسور، بعدما كشفتْ دراسةٌ أعدّتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) عن تَفاقُم الفقر إلى «حدّ هائل» في غضون عام واحد فقط، بحيث أصبح يطول 74 في المئة تقريباً من مجموع السكان.
لذا بات المواطن اللبناني يرزح تحت ثقل الغلاء الفاحش غير قادر على تأمين أدنى متطلبات قوته اليومي، ولم يعد بحثه عن أرخص الأصناف للتوفير أو حُسن التدبير، بل صار هدفه مجرد سد الرمق وإسكات الجوع ولو على حساب الجودة والنوعية. من هنا ازدهرت الأصناف البديلة والصناعات «الملغومة» التي تنشر في الأسواق مواد استهلاكية لا تحمل من مواصفاتها إلا الاسم، تضع الفقراء أمام خيارين إما الاكتفاء بمكونات تشبه الغذاء أو الموت جوعاً...
أشباه الألبان واللحوم
ألبان وأجبان وطحينة ولحوم معّلبة يشتريها المواطن من المحلات كما تعوّد ويختار الأرخص بينها، فإذ هي أشباه ألبان وأجبان تُصنّع محلياً بأسوأ الظروف الصحية وبأدنى نوعية مكوّنات.
تُقَلِّدُ أسماء معامل مرموقة السمعة ولها تاريخها، أو قد لا تحمل اسماً بالمطلق، تباع في الأسواق للمواطن الفقير الذي لم يعد لديه ترف الاختيار والمفاضلة.
صناعات غذائية لا تخضع لأي رقابة ولا تلبي أي معايير صحية أو أدنى متطلبات الجودة كشف عنها وزير الصناعة اللبناني جورج بوشيكيان أخيراً، قائلاً إن «تقارير مهندسي الوزارة والصور المأخوذة عن بعض المؤسسات المخالفة تظهر فظاعة التجهيزات وطرق الإنتاج البدائية والصدأ المتآكل على المعدات وانعدام النظافة في غرف تشبه كل شيء، إلا المصانع الغذائية».
وقد تبين أن هذه المصانع غير المرخصة التي يدير معظمها أشخاص من الجنسية السورية، تستخدم مواد ليست صالحة للأكل البشري كحليب يباع على أنّه طازج وطبيعي في حين أنّه عبارة عن زيت نباتي مهجن تضاف إليه بعض المواد ليبدو أبيض، كما تَبَيَّنَ وجود مواد غير مسموح استخدامها كمادة النياسين لاسيما في اللبنة.
ويقول أحد العارفين بسلامة الغذاء إن الألبان والأجبان التي يتم تهريبها من سورية إلى لبنان لا تخضع لأي شروط حفظ في برادات النقل (هذا إن نُقلت في البرادات) إن من حيث حرارة البرّاد أو من حيث نظافة مستوعبات الحفظ.
وكثيراً ما تُنقل في عبوات من التنك يمكن أن تكون صدئة أو غير نظيفة وقد تكون الأجبان محفوظة في مياه مملحة غير معروف مصدرها.
والأبشع من هذا أن بعض الأجبان المُهَرَّبة ليست في الحقيقة أجبان ولا ألبان بل هي ما يعرف بمحضرات غذائية لها شكل هذه الأطعمة لكنها مختلفة كلياً عنها ويتمّ بيعها على أنها منتجات طبيعية إنما بأسعار أقلّ بحيث يتهافت الناس على شرائها غير مدركين ما يستهلكون أو ما يطعمون أطفالهم.
أما بالنسبة للحوم المعلّبة التي غالباً ما تستخدم في سندويشات الأطفال، فقد صارت على رفوف السوبرماركت في لبنان تحمل أسماء غريبة بحيث لا يعرف منشأها ومن أي بلد ولا يمكن التأكد مما تحويه من مكونات ولكن الواضح بحسب الاختصاصيين في سلامة الغذاء أن كميات كبيرة من النشاء تضاف إلى هذه اللحوم لجعلها تتماسك مع بعض الملونات وكثير من البهارات والمنكهات لإخفاء الطعم الأصلي للحوم المجهولة المصدر.
وما هذا سوى غيض من فيض المخاطر الغذائية التي تتربص بشعب لبنان بحيث ان غلاء الأسعار يدفع ببعض التجار إلى عدم التخلص من المواد المنتهية الصلاحية أو من المواد التي فسدت نتيجة انقطاع التيار الكهربائي أو نتيجة عدم حفظها بالحرارة المناسبة بحيث يعاد تغليفها وبيعها للمستهلكين بأسعار أقل فيتهافتون عليها لأنها الوحيدة التي ما زالوا قادرين على شرائها غير مبالين بما ينتظرهم من مخاطر نتيجتها.
خطر الأدوية... داء لا دواء
الأدوية من جهتها تحوّلت خطراً إضافياً يتهدد صحة المواطن اللبناني وصارت شبيهة بالأصناف الغذائية المشبوهة. أدوية مجهولة المصدر تأتي لتملأ فراغ الأدوية غير المتوافرة في الأسواق أو تلك التي تَضاعفت أسعارُها عشرات المرات وباتت تفوق قدرة غالبية اللبنانيين.
أدوية بتركيبات مشابهة للأدوية المعروفة لكن بأسماء مختلفة ومصادر مجهولة لا يمكن التكهن بمدى فاعليتها أو حتى بصلاحيتها.
وتقول الدكتورة في الصيدلة جويل مغامس، إن الناس يضطرون للجوء إلى هذه الأدوية ليتعالجوا إذ بين أن يفقد المريض دواءه ويبقى بلا علاج أو بين اللجوء إلى بديل مشكوك بأمره يفضل المرضى الخيار الثاني وأهون الشرين.
وقد لاحظ كثر من المرضى أن الأدوية التي توصف لهم كبديل عن ضائع لم تعط النتيجة ذاتها لا بل تسببت عند البعض بأعراض جانبية كادت أن تعرض حياتهم للخطر.
وما فاقم المأساة أنه بعد رفع الدعم عن غالبية الأدوية وارتفاع أسعارها في شكل خيالي، باتت هنا أيضاً البدائل المطروحة سواء المباعة في الصيدليات أو التي تُقدّم عبر الجمعيات والمستوصفات المجانية مدعاة قلق وشك.
وبعدما ظنّ اللبنانيون أن الدواء المحلي يمكن أن يسدّ الثغر ويكون البديل المطلوب في السعر والنوعية للأدوية التي تحمل توقيع شركات عالمية، فوجئوا أخيراً بتقرير تلفزيوني يكشف أن بعض الأدوية المحلية الصنع إنما تعبأ وتُغلّف فقط في لبنان فيما مصادرها من الخارج من بلدان مختلفة مثل الصين والهند ورومانيا وإيران وقد لا تطابق المعايير العالمية المطلوبة من حيث المكونات، وإن كانت تحمل أسماء المكونات ذاتها التي تحويها الأدوية المعروفة، وهي لا تخضع لفحوص في مختبرات مرجعية للتأكد من محتوياتها ومطابقتها للنظم والمعايير المحلية والعالمية.
وكان نقيب الصيادلة الأسبق غسان الأمين، حذّر من كون الأدوية المهربة من سورية الى لبنان تنقل بطرق غير مدروسة وبأساليب تخزين تعرض فاعليتها للخطر مثل نقلها تحت حرارة الشمس بلا تبريد وإبقائها لأيام عدة في السيارات ما يعرضها للتلف.
هذا عدا ما عانت منه الصيدليات ومخازن الأدوية من انقطاع مستمر للكهرباء خلال فصل الصيف المنصرم، ما عرّض مخزونها من الأدوية لا سيما تلك التي تحتاج الى التبريد للخطر.
حلقة النفايات المفرغة
وبين غذائهم ودوائهم يغرق اللبنانيون في خطر متمثل بأكوام النفايات التي تعود إلى التكدس في شوارعهم نتيجة عدم إيجاد حل جذري لهذه المشكلة ونتيجة تفاقم الأزمة الاقتصادية التي جعلت شركات جمع النفايات غير قادرة على الاستمرار بالالتزام بعقودها مع الدولة وتأدية عملها كما يجب.
وقد عاش اللبنانيون في الأسبوعين الأخيرين رعباً كبيراً إثر التهويل بخطر حدوث انفجار كبير في مطمر الناعمة نتيجة عدم تنفيس الفتحات المخصصة لغاز الميثان المتصاعد من طمر النفايات في غياب العدد الأكبر من العمال في المطمر.
وقد حذّر الخبراء من أن هذه الانفجارات لو حدثت فإنها تهدد المنطقة السكنية المجاورة بأكملها بأضرار شبيهة بأضرار انفجار مرفأ بيروت، إلى ان طمأن المسؤولون الذين زاروا المطمر وآزرهم وزير البيئة ناصر ياسين، إلى ان هذه المشكلة تتم معالجتها ولا خطر متوقّعاً منها.
لكن ما لم تتم معالجته هو خطر تسرب عصارات النفايات غير المعالجة المطمورة في المكان إلى طبقات الأرض ومن ثم إلى المياه الجوفية التي تغذي غالبية المناطق المحيطة بالمكان وتعرض سلامة السكان للخطر.