هل تذكر الشخص الذي جلست تحدثه بصالون الحلاقة، أو الصالون النسائي، دون أن تعرفه ولم تتعرف عليه بعد ذلك، أو هل استرجعت كم كان مريحاً حديث الشخص الذي كان يجلس في المقعد الجانبي من الطائرة بجانبك، أو هل توقفت عند ذاك الذي حدثته عن معاناتك وآهاتك لمجرد أنك استقللت سيارة الأجرة الخاصة به، أو هل حلقت بذاكرتك لموظف الخدمة بأي وزارة قصدتها لإجراء معاملة ما، فوجدت نفسك تفضفض عن معاناتك ومشاكلك الخاصة؟
في الحياة كثير وكثير... من اللحظة التي تحدث بها شخص عند كاشير قهوة أو مطعم، أو بائع منتج معين إلى كل التقاطعات البشرية التي نتقاطع معها كغرباء لا يعرفوننا ولا نعرفهم، ما سبق نسميه علاقات الـ 10 دقائق...
وهي من أصدق أشكال وأنواع العلاقات، وأوضحها، وأكثرها شفافية في حياتنا ففيها نحن لا نعرف الشخص الذي نفتح له نوافذنا المُقفلة، وأبواب مشاعرنا المُوصدة، ولُب قهرنا المُحكم الغلق، لكننا نعرف جيداً، وبشكل جيد، الوجع الذي بحناه وطالما آلمنا، وأعجزنا، وأفقدنا قدرتنا على السرد، نعرف ما كنا لا نعرف كيفية بوحه، ولا نعي متى وأين نفضفض عنه.
حتى يأتينا مثير يتشارك ويتصادف ويتصل بشكل مباشر أو غير مباشر.
بما يوجعنا فننهال بلا تفكير، بما يجول بخاطرنا، وبما تغص به أحبالنا الصوتية، وبما نخشى بوحه لمن هم الأقرب لنا، خوفاً من ردة الفعل أو تفاقم الحمل عليهم، أو تلك المسافات الانشغالية التي فصلتنا عنهم.
هل تتصور عزيزي القارئ كل ذلك يحدث بـ 10 دقائق كحد أقصى، علاقة سريعة وفعّالة وصحية نفسياً، وعن الـ 10 دقائق التي حدثت لي في حياتي كانت في 2020 في وقت الحظر و«كورونا» وبين شوارع لندن الباهتة، ودهاليز طرقها الموحشة التي لم نعتد عليها من قبل.
استقللت سيارة أجرة عن طريق تطبيق إلكتروني، لأمضي لبيتي، توقف سائقها وما ان ركبت حتى ابتسم لي وسألني كيف حالك؟ لأجد نفسي أجهش في البكاء، وكأنني أبحث عن أي عذر يجعلني أخرج تلك الدموع المأسورة في عيني، وأنا دكتورة مختصة بالنفوس البشرية... أخبرته كل شيء، قصة حياتي وما يضايقني الآن، وعن اشتياقي لأسرتي، وعن معاناتي مع الغربة، وعن طول المدة الزمنية التي لم أر بها أهلي وأحبابي، كان ينصت لي بتمعن واهتمام، وكأنه لا يحمل من التعب شيئاً بداخله.
تبادلنا لوهلة الأدوار، هو كان الدكتور النفسي في الموقف، ما أوقفني في هذه الحادثة ما أخبرني عنه في رحلة عمله كسائق أجرة، انه في كل توصيلة يسمع قصة مثيرة وفريدة ومهمة، هناك قصص سعيدة وأخرى مفيدة، وكثير من المأسوية.
وعبّر لي عن مدى سعادته في السفر لقصص الناس في رحلة توصيله لزبائنه، وكيف يضيفون لحياته الكثير.
وعندما وصلنا، قال لي... شكراً لأنك أضفتِ لحياتي قصة جديدة، فأنا اعدها موسوعة قصص، بذاكرة سمكة، ما ان أوصلك لوجهتك وأرحل تاركاً إياكِ، أذهب لقصة أخرى.
أوقفتني هذه الكلمات، كيف لمدة قصيرة كهذه تصنع الفرق شعورياً في حياتنا؟ كيف لها أن تريحنا، وتداوينا، وقد تصقلنا؟ وتضيف لنا أيضاً.
كانت اللحظة الأكثر صدقاً في حياتي، وهي لا تتجاوز سوى إشارات وطرق ملتوية ومسافة قصيرة لسكني.
... وأنت عزيزي القارئ، هل مررت بعلاقة 10 دقائق؟
اذكر معي كم شخص لم تعرفه، اعترفت له عن ما يحزنك، وكم شخص تجهل من هو، بكيت بصدق أمامه، وكم موظف، لا علاقة له بما تعانيه، أخبرته بمعاناتك وآلامك، وكم من الكم كثير كنت صادقاً به، لمدة 10 دقائق فقط.
الكثير والكثير الآن، راجع كل 10 دقائق قضيتها مع شخص غريب، وعابر في حياتك ستجدها كانت اللحظات الأصدق من عمرك، والأكثر عمقاً في فكرك، والألطف في شخصيتك، والأكثر حقيقة عنك. Twitter،Insta;
@drnadiaalkhaldi