واقعنا اليوم، قدّمنا التعليم على التربية، فحصدنا بجدارة ضعف مستوى التعليم مع تدني مستوى المخرجات، وعدم تأهّل الداخلين سوق العمل! وإذا باشروا أعمالهم قلّ الإنتاج وكثرت المرضيات وتسابقوا بكل مناسبة وإجازة للسفر والتصوير فما سبب كل هذا؟ رغم أننا لا تنقصنا الميزانيات ولا التقنيات، فلماذا وصلنا إلى هذه الحال؟ سآخذكم بجولة سريعة في تاريخ التعليم بالكويت لنجيب عن هذا التساؤل الوطني.
انشئ مجلس المعارف في الكويت عام 1936 برئاسة الشيخ عبدالله الجابر الصباح وثلة من أهل الحل والعقد، وروّاد التربية والتنوير وبدايات النهضة الشاملة، حيث تبلور الخط الجديد للتعليم في الكويت وتوسع شيئاً فشيئاً فضم تعليم الإنكليزية والتعليم التجاري، إضافة إلى مبادئ الحساب والقرآن الكريم واللغة بفروعها والمواريث وغيرها من المعارف، وأُنشئت المدارس في القبلة والشرق وفيلكا والأحمدي والفحيحيل.
لقد تميّز التعليم في الكويت خلال مرحلة التأسيس بسيادة القيم المجتمعية الكبرى التي أثرت في الرعيل الأول.
من هذه القيم، الحرص على التعليم وزيادة التحصيل، فتجدهم يسمعون ويدونون كل ما يصدر من المعلم ولا يفرقون بين الواجبات والمستحبات من حيث السؤال والتعليم والتطبيق.
كما أنك تجدهم من أحرص الناس على الخير والعلم وأشدهم أسفاً على فواته، فما إن بدأ التسجيل في المدارس النظامية إلا ونجدهم دائماً في المقدمة، كما أن للعلم الذي تلقّوه أثراً واضحاً ظهر في أعمالهم اليومية، وتجدهم دائماً يستذكرون بفخر واعتزاز أعمالهم الوطنية التي أنجزوها.
والسؤال، لماذا سبقت التربية التعليم في تلك الفترة؟ الجواب باختصار، لأن البيئة في المجتمع كانت بيئة تربية مستمرة وتنمية مستدامة أينما سار الكويتيون تلقّوا وتربّوا على القيم والمبادئ.
فالبيت ويضم العائلة بكل فروعها وأصولها (الأسرة الممتدة) فكان الجد إذا دخل البيت الكل يعتدل ويصمت، والكل يباشر دخول الجد لحمل الأغراض عنه، والكل يرحب فيه ويسلّم عليه ويقبّل يده ورأسه، ولا أحد يتكلم بحضرته حتى يدخل داره ويستريح، ثم يخرج للغداء والكل بانتظاره بصمت.
وإذا تيممنا شطر (قهوة بوناشي) 1780، وهي رمز العلاقة الوطيدة بين الحاكم والمحكوم عند سوق المناخ، محل تسلم وتسليم البضائع الآتية من الخارج، وذلك في عهد الشيخ عبدالله بن صباح الأول الذي حكم سنة 1762، حيث كان يجلس والكل يستمع إلى توجيهاته من التجار والنواخذة و(المجدمية)، كانوا يترددون عليها صباحاً لتبادل الأحاديث والأخبار عن رحلات الغوص والأسفار والتجارب فكانت أشبه بالمنتدى الاجتماعي والعلمي الذي يضم أطياف الكويت فالكل منها يستفيد وهي مجرد قهوة! قارنها بالمقاهي اليوم؟ وإذا رجعنا إلى الفريج والحي، فكل فريج مسمى باسم قاطنيه، والفريج تحكمه ضوابط وقيود تربوية وأخلاقية لا يمكن لأحد الخروج عليها.
واحترامها مفروض على الصغير والكبير. بل حتى المرور بحي غير حيّك فجهز نفسك للسؤال والعراك ليش مار هني؟ كما أن هناك النواطير وهم حراس الأسواق والممرات بين المساكن، ومهمتهم الحراسة والسؤال والتحقيق عمن يتأخر بالليل، ثم يعود مسكنه، فيسألونه عن سبب تأخره وينهرونه اذا لم يكن له عذر، كل ذلك خوفاً من أي طارق يطرق بليل.
وهكذا المساجد وهي عبارة عن محاضن تربوية واجتماعية، ولا يتقدم للصلاة إلا من عُرف بالإخلاص والصدق والعِلم والفقه، مثل عبدالعزيز أحمد الرشيد ويوسف بن عيسى القناعي ومحمد العدساني والفارس والطبطبائي والدحيان وبن جراح والسدحان وغيرهم كثير من الرعيل الأول.
هكذا إذاً باختصار كانت التربية مقدّمة على التعليم ولا أنسى أن أقول إن قلّة الأكل واللعب والنوم أسلوب آخر من أساليب التربية التي انتجت رجال (محكحكة معادنها).
وخذ معاني (نهمة النهام) إذا ركبوا السفن وتأهبوا للسفر طلباً للرزق، خضعوا لله ثم الصلاة والسلام على رسوله والدعاء بالسلامة والرزق والعودة للديار، وسط هذه الأجواء المفعمة بالمعاني والقيم كالرجولة والصدق وصفاء النفوس.
ولما بدأ التعليم النظامي فأصبح مع هذه التربية كزرع أخرجَ شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سُوقه، ولأن التعليم جاء في البيئة المناسبة له فأثمر من كل زوج بهيج.
أما السؤال الثاني لماذا تأخرت التربية اليوم عن التعليم وما أثر ذلك؟ فقد أصبحت الشهادة هي الأساس، حتى لو انعدمت التربية وانعدم الصدق وانعدم الإخلاص، فظهرت دكاكين الشهادات! ولماذا الحرص على الأعمال الممتازة دون أدنى جهد وإنتاج؟ فبرزت البطالة المقنعة! ولماذا يتم التعدي على المدرس، والأستاذ بالضرب أو السخرية والاستهزاء؟ لأن الطالب تربّى على حرية النقد! لماذا حُرِم المُعلم من استخدام الترغيب والترهيب في التربية؟ لأن الطالب تعلّم الحرية من وسائل التواصل؟ فلا يسمع ولا يقبل من أحد أي توجيه! لماذا زاد التسرب من التعليم؟ لأن الوالدين وفرا للأبناء كل المتع وألوان الترفيه! وكل شيء (إيزي).
هذه المشاكل التي تعاني منها وزارة التربية، ووزارة التعليم العالي سببها تأخر التربية عن التعليم، فانعدمت بيئة التعليم وتقطّعت أواصر المعرفة، وحلت محلها مظاهر الحريات الزائفة والخصوصيات المارقة، والتفكير الحُر الذي أنتج لنا نماذج الشذوذ الفكري والسلوكي البائس في الشباب اليوم! فما هو الحل، وكيف الخروج من هذا الواقع؟ الخلاصة: الحل، سهل وسريع وغير مكلّف، مجرد العودة إلى الأصالة السابقة مع رجال من الطراز الأول.... فهل من مجيب؟