حِرْص منظمي الحوار الوطني والمشاركين فيه على التكتيم الإعلامي خلق حالة من الاستياء لدى الشعب، تخلّلتها مشاعر غضب تجاه النوّاب المشاركين فيه، الذين يدّعون تبني الشفّافية تجاه المواطنين واحترام حقهم في الاطلاع على المعلومات والمشاركة في صناعة القرارات، خصوصاً بعد انتشار تسريبات محدودة جدّاً استشفّ منها تغليب مصلحة مجموعة من السياسيين على أولويات الشعب، وعلى حساب تمرير قوانين ماليّة باهظة كقانون الدين العام.
هذه السياسة الإعلامية تغيّرت فجأة يوم الأحد الماضي، حيث انتشرت تسريبات عن جلسة الحوار في ذلك اليوم، وسُرّدت الملفّات والقوانين المتّسقة مع أولويات الشعب التي عرضت فيها. ولذلك فسّر مراقبون هذا التحول الإعلامي محاولة لامتصاص غضب الشارع.
ولكن حتى هذه التسريبات كانت لها تبعات سلبية لدى شريحة واسعة من المواطنين، لأنها كانت بمثابة إعلان تمطيط وتأجيل إقرار تلك القوانين المستحقّة، حيث اكتفت المعارضة بطلب ضمّها في برنامج عمل الحكومة المرتقبة، وليس ضمن التفاهمات التي تقرّر البدء بتنفيذها خلال الأيام والأسابيع المقبلة كالعفو والتحصين والقوانين المالية.
ومن منظور إيجابي، جلسات الحوار الوطني كانت أقرب إلى درس عملي للناخبين خلاصته أن تقييم النوّاب يفترض أن يكون وفق الإنجازات التي يشاركون في تحقيقها وليس بعدد الملفّات التي يتبنّونها.
لأنهم قد يتبنّون بعض الملفات لا لإنجازها، بل لتوظيفها كأدوات ضغط لدعم مواقفهم في ملفات أخرى.
كما أنهم كثيرا ما يتبنّون شكلياً مجموعة من الملفات بغرض التكسّب الانتخابي، ومن بين تلك الملفات ما كُشف في هذا الدرس العملي.
يعتبر ملف «البدون» أحد أبرز ملفّات التكسّب الانتخابي وأكثرها استدامة، ويحتضن حالياً مسارين رئيسين للتكسّب: التطرّف في رفض الاقتراح بقانون «في شأن المقيمين بصورة غير قانونية» المقدّم من رئيس المجلس، والهوادة في دعم إقرار قانون الحقوق المدنية والاجتماعية لغير محدّدي الجنسية، الذي طرح في جلسة الأحد وفق التسريبات.
وأما المسار الثالث، الخاص بـ«الاقتراح بقانون بتنظيم أوضاع غير محددي الجنسية»، المقدّم بصفة الاستعجال من قبل خمسة نوّاب، من بينهم الدكتوران جوهر وروح الدين المنتميان إلى كتلة الـ(6)، التي ينتمي إليها أيضاً مهلهل المضف ومقرّب منها الدكتور الوسمي؛ هذا المسار غاب عن جلسات الحوار بالرغم من ارتباطه الوثيق بممثلي المعارضة الثلاثة.
كما أن الدكتور جوهر ومهلهل المضف كانا من بين الموقّعين على البيان الذي أصدره (16) نائباً، في يناير الماضي في شأن استحقاقات الحكومة الحالية قبل تشكيلها، وهذا البيان لم يتضمن ملف «البدون» بالرغم من تضمّنه العديد من الأولويّات. وأما ممثل المعارضة الثالث الدكتور الوسمي فلم يكن عضواً آنذاك، ولكن يرجّح أنه تمت استشارته في شأن البيان قبل إصداره.
باختصار، أي مسعى صوري للتوافق على تمرير قانون لصالح «البدون» في جلسات الحوار الوطني مصيره الاجهاض أو التشويه والإعاقة، كأن يُقر القانون من دون معالجة كاملة لفئة «البدون» غير المقيّدين في سجلّات «البدون» الرسمية.
والخلاصة هي أنه لدينا نوّاب يتقاعسون عن حماية الحريّات الدينية بحجة تجنّب التكسّب الانتخابي، ولكنهم في الوقت ذاته يمارسون التكسّب الانتخابي في المبادئ الإنسانية كملف «البدون»، وفي الثوابت الدستورية كادعاءات «بداية مرحلة تأسيس حياة برلمانية دستورية سليمة»... «اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه».
abdnakhi@yahoo.com