ويسألونك ماذا سيتغير في العراق بعد انتخابات أكتوبر؟ ماذا إن عاد إلى المشهد السياسي المخرج والمنتج وكاتب السيناريو والأبطال والكومبارس أنفسهم؟ الإجابة تأتي من مصادر على صلة برئاسة الوزراء التي ترى أن المسؤولية على العراقيين كبيرة وتاريخية في الخيار والاختيار، وأن صوت الناخب أمانة بل بوليصة تأمين لمستقبله ومستقبل أبنائه، وأن قطار الحل الذي تعطل وتجمد وتحرك ببطء هو على السكة الصحيحة بعد أشهر من معاناة سياسية كادت تفجر كل المحطات الداخلية وتبقي الاتجاهات مفتوحة من خارج إلى داخل... فقط.
هذا الاستهلال الذي يبدو أنه من باب الموعظة هو حقيقة في صلب نقاش مختلف الدوائر الرسمية الدولية ومراكز الأبحاث عن عراق ما بعد الانتخابات، وعن رهان رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي على إرادة الناس في التغيير والعبور إلى الدولة.
جهد الكاظمي لتكريس نهج في السياسة العراقية مختلف تماماً عن كل ما سبق. فلا القوة بالنسبة له أن يلقي خطاباً نارياً، يهدد ويتوعد فيه، ولا النجاح يعني إقصاء الخصوم بمختلف الطرق، ولا الشجاعة تقتضي أن يحارب القريب والبعيد، ولا النصر يعني استنزاف مقدرات العراق البشرية والمادية في سياسات ومعارك مجنونة.
كانت القوة أن يعلن برنامجاً تنموياً، يخدم العراقيين ومشروعاً سياسياً يخرجهم من الأزمات. وكان النجاح أن يشرك الجميع، الخصوم قبل المؤيدين، في البرنامج والمشروع وأن يسير بثبات بين المتعددات وجمعها لتحويل التكامل إلى تناقض، والشجاعة كانت أن يتعاون مع القريب والبعيد لما يخدم الأمن والاستقرار في العراق وهو يعرف قبل غيره بل وأكثر من غيره مضمون أجندات الآخرين على أرض العراق ورغبة كثيرين في تحويله «صندوق بريد».
أما النصر فهو في توظيف علاقات التعاون لمصلحة الاستقرار وتوظيف الاستقرار لاستعادة دور العراق وتحويله منطقة جذب استثماري ولذلك عادت القمم الدولية والعربية إلى العراق مصحوبة بآليات تعاون ومتابعة.
لم ينجح الكاظمي في تحقيق كل أهدافه ولم يكن أحد آخر لينجح، لا قياساً للظروف السياسية والاجتماعية، ولا نتيجة غزو جائحة كورونا، ولا انهيار أسواق النفط، ولا لاستمرار مشاريع الدويلات، ولا لانحسار المشروع الإرهابي... مع ذلك وضع القطار على السكة الصحيحة عبر مجموعة السياسات التي انطلقت من ساحات الناس ومطالبها وأخذت مكانها تدريجياً على أرض الواقع.
حتى في مفهوم الدويلات والطائفية، كان الرجل يرى أن انسحاب الدولة وضعفها هو الذي يقوي الدويلة ويسمح للعنصر الخارجي بالتسلل والتمدد، وهو متأكد من أن تراجع العدل ووقوعه في فخ المعايير المزدوجة وسيادة الفساد الإداري والمالي وترهل الإدارة هي العناصر الرئيسية التي تغذي الطائفية.
عمل الكاظمي على معالجة الأسباب لا مواجهة النتائج فحسب وركز على بناء الدولة وسيادة العدل ومحاربة الفساد، وكان أول مسؤول عراقي رفيع المستوى يعترف بوجود انتهاكات لحقوق الإنسان في أجهزة الدولة قبل أن يتحدث عن وجودها لدى الميليشيات.
هل نجح في ذلك أيضاً؟ تقدم طبعاً في الكثير من الملفات على طريق بناء الدولة، لكن عبارة «ما أقسى الظروف وما أصعب المهمة» هي الشعار الواقعي الذي تجدر محاكاته في مقاربات الحلول.
قبل عقود كثيرة، وبعيداً من السياسة الخارجية ووضع المنطقة الإقليمي وحلف بغداد وظروف الصراع العربي الاسرائيلي آنذاك، يمكن رصد متشابهات في بعض أوجه السياسة الداخلية بين الكاظمي ورئيس الوزراء السابق الراحل نوري السعيد، تحديداً في عناصر العمل على جمع المتناقضات وإعلاء برامج التنمية بكل وجوهها، والاستفادة من العلاقات الخارجية لخدمة العراق دولة وإدارة ومشاريع وبرامج.
كان السعيد يتمنى أن يصل العراقيون إلى يوم يؤمنون فيه بوطنهم أكثر من إيمانهم بأحزابهم وأشخاصهم وأن يعملوا على «تجفيف الضغائن قبل تجفيف المستنقعات»، وأن يبتعد المسؤول عن السياسة السلبية «لأنها سهلة وفي استطاعة كل إنسان أن يمارسها. لا يكفي أن تلغي وتنسف وتعارض وتنتقد، بل عليك أن تبادر إلى وضع الأسس وإلى بناء شيء آخر مكانه».
لم يتعب الكاظمي من البناء واستمرار جمع المتناقضات، تكفي الإشارة إلى رمزية التوافق للمرة الأولى في تاريخ العراق على «اليوم الوطني» وجعله في 3 أكتوبر المرتبط بإعلان استقلال البلاد عن الانتداب البريطاني ودخولها رسميا في عصبة الأمم المتحدة عام 1932.
كما يجب التوقف عند ما قاله وزير خارجية فرنسا جون إيف لو دريان لقناة العربية: «مؤتمر بغداد سمح بإطلاق حوار بين دول المنطقة لمصلحة الأمن والاستقرار الإقليميين. روح بغداد يجب أن تسود في المنطقة».
بين أشهر على تسلم مصطفى الكاظمي رئاسة حكومة دولة طاردة لأهلها من جهة ويتحاشاها الآخرون من جهة أخرى، وبين أن تتمنى أكبر دولة أوروبية أن «تسود روح بغداد في المنطقة»، يمكن تحديد زاوية تقييم الرجل المستمر في حفر الجبل... ولو بإبرة.