No Script

فلسفة قلم

الضبط والإحضار وجدل التلاعب

تصغير
تكبير

في القرن التاسع عشر كان سَجن المدينين طريقة إشاعة للتعامل مع الديون غير المدفوعة، في أماكن مثل أوروبا الغربية، كان الناس غير القادرين على دفع الحكم القضائي - رجالاً كانوا أم نساء - يزجون في السجون حتى تدفع عائلاتهم ديونهم، أو يسددوها أعمالاً شاقة خلف القضبان، وفي القرن نفسه انتهت هذه المسألة وصارت من حكايا القرون الماضية.

وفي القرن الحادي والعشرين، أو تحديداً قبل أيام قليلة، ضجّ الكثير من الأشخاص وأقاموا الدنيا وأقعدوها، مناهضين للقانون الذي كسّر الأغلال المكبلة في أيادي المطلوبين للضبط والإحضار للحبس بسبب الديون المتراكمة، وضجر المعارضون دفاعاً عن حبس الحريات.

تابعت معظم الأسباب التي من منطلقها عارض المعارضون القانون، ووجدت الكثير من الأشخاص القريبين من المشهد، سواء كانوا من العاملين في السلك القانوني وأروقة المحاكم، أو من غير المتخصصين في القانون، قد بنوا اعتراضهم على أسباب الرفض نفسها، والتي تمحورت حول فتح باب التلاعب والتهرّب من سداد الديون، وفق مبدأ من أمن العقوبة أساء التصرف.

وبعيداً عن الجدل الذي يدور حول عقلية المذنب، وإرادته فإن الأصل في التوقف عن سداد الدين تعثراً أو اعساراً، إما لانقطاع الراتب، وإما وقف في مصادر أموال أخرى أو خسارة تجارية، أياً كان السبب، المهم وقوع حدث واضح حال من دون قدرة المدين على الالتزام بسداد الدين فصار عاجزاً، هذا هو الأصل في التعثر والإعسار المالي.

ومن هذا المنطق تشكّلت دوافع الدراسة، التي أثمرت قانون وقف أوامر ضبط وإحضار وسجن المطلوبين للتنفيذ المدني، أما الغريب وغير المنطقي، وما يتعارض مع أنظمة العدالة الجنائية فهو تقديم سوء النية، وجعلها مبدأ أساسياً في بناء القوانين الشاملة وإصدارها وتعميمها على الجميع، وهذا ما أثار استغرابي.

أعلم أن التلاعب والامتناع عن سداد الدين - رغم وجود الملاءة المالية - واقع نعيشه، ولا أحد يستطيع إنكاره، ولكن وجود حالات قد تلتف على قانون معين وتتلاعب به حتى وإن كانت كثيرة، لا يعني أن يتم تعميم القوانين الشاملة لتطول كل من يعيش في البلد لمجرد علاج مشكلة بعينها، فالأحرى أن يتم إصدار قانون يشدد العقوبات على من يثبت تلاعبه وتهربه من سداد التزاماته، وعدم ترديد مقولة إن أوامر الضبط والإحضار في الغالب تحل مشكلة الدين، فنصبح كالذي راهن على البنادول في تخفيف آلام الجروح، وتجاهل خياطة الجرح وتضميده.

نعم سيتضرر عدد من مستحقي النفقات من الزوجات والأبناء، ودائن لن يتحصل على حقه، وسيفكر مدين في التلاعب في أصوله والتهرب من السداد بادعاء العجز المالي، ولكن قطعاً تعميم الضغط النفسي والاجتماعي وسجن الجميع لإشفاء غليل دائن ليس الحل الوحيد لهذه المشكلات، فهناك إجراءات بديلة أثبتت جدواها، وليس من الإنسانية ولا من المنطق أن نكبل كل المدينين بالأغلال ونحبسهم في السجون حتى نغلق باب التلاعب، بل الأجدى أن يواجه القانون مشكلاته منفردة.

على المدى البعيد ستتضح أهمية هذا القانون وجدواه في تنظيم عملية الدين، ومراجعة الحسابات من قِبل الدائنين، وتجربة القرن التاسع عشر في أوروبا خير مثال.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي