في ذكراه الثلاثين... عبدالله المبارك وطن في رجل

No Image
تصغير
تكبير

يسطّرُ لنا التاريخ العديد من المواقف والأعمال العظيمة، لشخصيات كان لها أكبر الأثر في تغيير التاريخ وتطوره، كما كان لها بصمات واضحة في جميع مجالات بناء الدول من سياسة واقتصاد وعلم وأدب ورياضة، مجالات أخرى لا حصر لها، تستدعي السؤال: كيف استطاعوا تحقيق كل هذه الإنجازات المتنوعة في عمر قصير قياساً بعمر الزمن؟... وكيف رحلوا عن الحياة وبقيت إنجازاتهم وأسماؤهم وبصماتهم تنادي كل يوم ببيت أحمد شوقي:

الناس صنفان: موتى في حياتهم وآخرون ببطن الأرض أحياء

تمر اليوم الذكرى الثلاثون لوفاة والدي نائب حاكم الكويت الشيخ عبدالله مبارك الصباح، طيّب الله ثراه، الذي نتتبع مسيرته فنجدها حافلة بالإنجازات الأولى في تاريخ الكويت، بحضوره وإشرافه وبصماته وجهوده بمساندة ومعاضده رجال أخيار من صفوة رجالات الكويت، كانوا مثل منارات تهدي السائرين... اختارهم عبدالله المبارك بعناية، ليحققوا معه تلك البصمات الخالدة والشواهد الناطقة لرجل مرّ في عمر الزمن مثل غيمة مثقلة بالخير والنماء.

فهو بالإضافة لكونه، أول من شغل منصب نائب حاكم في تاريخ الكويت السياسي، وأول من وصل الى مرتبة مشير في تاريخ الكويت العسكري... فقد سجل النقاط الشخصية الأولى في ميادين كثيرة... ووضع الأعمدة الرئيسية للبيت الكويتي.

كنت أطالع فيديو قبل أيام بالأبيض والأسود، يعود الى عام 1959، وألمح فيه نظرات والدي الشيخ عبدالله مبارك الصباح، وهو يصعد بسعادة مع الشيخ عبدالله السالم، الى أعلى أول ناقلة للنفط الخام «كاظمة»، التي بلغت سعتها 49 ألف طن متري، واعتبرت ناقلة عملاقة آنذاك... ثم انتقل الى صورة أخرى تجمعهما، وهما يشربان من أول كأس ماء عذب في تاريخ الكويت، من مصنع تحلية المياه الذي تم افتتاحه في منطقة الشويخ عام 1953، لتنتهي بذلك أزمة مياه الشرب في الكويت الى الأبد، بعد معاناة قرون من الزمن.

وتتوالى اللقطات في المنجزات الكبيرة والرئيسة، التي وضعها عبدالله المبارك، سواء كان مسانداً للشيخ عبدالله السالم، أو نائباً له أثناء فترات غيابه الطويلة عن الكويت، حيث تؤول مهمة إدارة البلاد إلى نائبه... ليملأ الوقت كله بالإنجاز والعمل والبناء، وكأنه يسابق العمر، يريد أن يضع اسم الكويت في ذهن الزمن، لتستحق بعد ذلك لقب عروس الخليج... ولؤلؤة المدائن ووطن النهار.

أول مطار في تاريخ الكويت، أول بنك في تاريخ الكويت، أول مستشفى، أول ثانوية، مشروع أول جامعة، أول توثيق تاريخي، وأول بعثة دراسية... هذه وأحداث غيرها كثيرة أثبتتها الوثائق وكتبَ عنها المراقبون وسجّلتها الكتب لشخصية فذة... استطاعت ان تستثمر الثروة في صالح الوطن... وتفتح من خلالها الأبواب لشباب الوطن، كي ينطلقوا في ميادين العلم... والفكر والعطاء الإنساني... ولم تقتصر بصمات عبدالله المبارك في الكويت، بل امتدت إلى أرجاء الوطن العربي ومازالت بصماته ناطقة، شاهدة حاضرة، نراها رأي العين في كثير من العواصم العربية، وفي مقدمتها بيروت والقاهرة اللتان كانتا وطناً اختيارياً لتعيش أسرته فيه بعد هجرته الاختيارية، اثر تقديم استقالته من جميع مناصبه طوعاً في حدث نادر قلما يتكرّر في التاريخ العربي، ذلك أن يترك رجل يتحكم بمفاصل الدولة من جيش وشرطة وقيادة... يترك كل ذلك بهدوء شديد، من دون أن يسبب قلقاً سياسياً... فالرجال الناجحون ليسوا هم الذين تنهار أوطانهم برحيلهم... بل هم أولئك الذين يرحلون ويتركون بلداً قوياً، قادراً على الوقوف والصمود والتقدم والازدهار.

ترك الشيخ عبدالله المبارك مناصبه، لكنه لم يقطع حبال الود مع وطنه وأسرته وشعبه، فقد حافظ على كل العلاقات التي أسسها بعمق... وفي مقدمتها إحساسه العميق بالولاء المطلق للحاكم... وحرصه الشديد على وحدة الأسرة وتماسكها، والحفاظ على صورة وهيبة الكويت في الداخل والخارج.

تعامل مع الخلاف السياسي بأخلاق الفرسان، فلم يحوّله الى خلاف شخصي، طوال ثلاثين عاماً أمضاها خارج السلطة، بل كان مستعداً لخدمة الكويت إن احتاجت جهوده في المهمات الصعبة، وهو ما حدث في بعض الأزمات السياسية، التي كان تدخله يسهم في إنهائها، وقد حرص على الالتزام بهذا المبدأ، حتى وفاته رحمه الله.

هكذا كانت حياة أصغر وآخر أنجال الشيخ مبارك الكبير... وأطولهم حياة، ففي يوم 15 يونيو 1991 طويت صفحة من صفحات التاريخ الكويتي المشرقة، التي شكلت البناء الحقيقي للتاريخ الكويتي الحديث والنهضة الهائلة في مفاصل الدولة كافة... لما كان يملكه ذلك الرجل من طاقة هائلة على العمل وامتداد مذهل من العلاقات... ووقوفه على رأس مؤسسات الدولة.

لقد شهدت الكويت في عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين وضع الدعامات التنظيمية الأولى للنهوض بالبلاد على مختلف الصعد، فكانت من أخصب الفترات التي هيأت لانطلاق النهضة الثقافية والتنظيمية الشاملة.

وفي جنبات كتاب «صقر الخليج» للوالدة الدكتورة سعاد الصباح، مرتكزات كثيرة وعديدة وضعها هذا الرجل، وشكّلت مفاصل مستقبل دولة الكويت، الذي بات حاضراً يعيشه المواطن والمقيم والزائر، فأنت تدخل أو تخرج من الكويت عبر مطار، هو من أشرفَ على تأسيسه وتطويره وتدريب طياريه، وتتعامل بجوازات سفر هو أول من أصدرها.

ملامح تنطق برياداته في المجالات، المعرفية، الثقافية، التنويرية... تأكيداً لما سطّره شعراً عضو مجلس المعارف عبدالله العلي الصانع، في مديح الشيخ عبدالله مبارك الصباح:

تباري غمام الوسم جدواك ان همى

وينشر منها نسمة المسك جودها

وكم لك يا ابن الأكرمين لدى العلا

مشاهد مجد لم تغيب شهودها

أبو الذي ساد الملا في زمانه

وجاءته إرغاما لدى الأمر صيدها

والأمر الآخر الذي يلفت الانتباه في مسيرة الرجل... أنه قام بتهيئة شباب الأسرة وإعدادهم لقيادة الكويت، فخرج من كل ذلك محبوباً مهاباً من الاطياف كافة، ولم تخلق له المنافسات السياسية أعداء أو مبغضين... لأنه لم يكن يعمل لنفسه بل للكويت التي كان يختم بها كلماته في كل محفل عندما يهتف: (نموت وتحيا الكويت)... يكررها مرات عدة، وهي عبارة ليست للاستهلاك الإعلامي، بل انه كان يوصينا بها في جلساتنا العائلية... لنستحضر على اثرها قول الله تعالى: (من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم مَن قضى نحبه ومنهم مَن ينتظر، وما بدّلوا تبديلا).

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي