No Script

قصة قصيرة

في المقهى... استراحة العيد

الدكتور فهد الراشد
الدكتور فهد الراشد
تصغير
تكبير
- يا عوض الله... يا عوض الله... تعال يبا شوف لي حسابي جم ...

- إيه يا عم عبدالله ما لسه بدري... مش من عوايدك يعني.

- بدري من عمرك خلصني يبا... وبعدين جم مرة قايلك لا تناديني عبدالله، قول بوحمود، ألف مرة مسولفلك عن ولدي الجبير حمود.


- حاضر ماشي يا عم بوحممود.

- يبا بو حمود مو بوحممود.. شايفني ألعب كرة.

- ماشي ياعم بس ما تتحمقش، ده أنا قصدي مش عايز أكبرك.

- يعني راح ناخذ زمانا وزمان غيرنا، هذه حال الدنيا.

- ثم قال وهو يميل يسارا بكتفه بانحناءة قليلة مستخرجا مجموعة من المفاتيح:

- إييه.. بس لو يفهمون هالمسؤولين إللي معجعجين بالكرسي...

- ثم اعتدل بعد أن استخرج مفاتيحه قائلا:

- تدري يا عوض الله ...

- أيوه يا عم بو حممود.

- عبس وجهه عندما سمعه مازال ينطقها بحممود، ثم استرسل قائلا:

- أنا أخاف من ثلاث كراسي.

- تلات كراسي إي هما يا عم بوحممود؟

- إيه قلت لي إيه هما على قولتك، الأول كرسي المزين، تعرف شنو المزين يعني الحلاق، حلاق الشعر، إللي يقصقص شعرك، وإللي لي مسك المقص ما يهده.

- أيوه .. أيوه .. عرفتو. ها .. والتاني يا عم بو حممود؟

- إييه وثاني كرسي هو كرسي طبيب الأسنان، إللي يشلع ضرسك، بعد ما يعطيك بنج حقك وحق فريجكم كله.

- فوضع عوض الله راحة يده على حنكه الأيمن وقال:

- أي والله معاك حق ده أنا بقالي ست شهور وسنتي وجعاني وخايف أروح دكتور الأسنان، لحسن يخلعها وتوجعني أكتر.

- اصبر علشان تسمع الكرسي الثالث والمهم.

- محاولا تفخيم صوته لتهويل الموقف.

- ربنا يستر يا عم بوحمود، إيه هو قول بسرعة سيبت ركبي.

- هذه المرة نطق اسم بوحمود على الصحيح من صاحبها.

- الثالث يا عوض الله.

- أيو التالت إي هو؟

- وهو ينظر إلى أبي حمود وينتظر معلومة مفيدة، كالأطفال الصغار حينما تقص عليهم القصة وتقف عند عقدتها وتشابك أحداثها، فيتحقق هنا عنصر التشويق، لاحظ ذلك عبدالله فأراد أن يتلاعب بأعصاب الرجل وعواطفه وفضوله في معرفة الكرسي الثالث.

- إي تبي تعرفه يعني؟

- يلا يا عم ده أنا مستني من الصبح قول أنت بس إي هو.

- الكرسي الثالث يا عوضين...

- عوض الله .. يا عم... عوض الله .. أنت جبت عوضين دي منين.

ها...عوضين هذا صاحب الكشري، سوووري حقك علي ما عليه، ضيعت بينك وبينه.

- هو أنا برضو بتاع كشري، ليه شايف كرشتي قدامي يعني.

- الكرسي الثالث هو كرسي الوزارة، تعرف شنو كرسي الوزارة، يعني كرسي الوزييير، نعم كرسي الوزير، إللي اليوم يحطونه وباجر يشيلونه بالجريدة، وهو يا غافلين لكم الله قاعد في بيتهم ما يدري شالطبخة.

- يا حرام وبيشيلو كده من غير ليه؟

- من غير ليه يا عوض الله من غير ليه بتاعت عبدالوهاب.

- تأثر عوض الله وتألم وبان ذلك على قسمات وجهه .. وطأطأ الرأس حزينا، وكأنه عاش دور الوزير المخلوع، ثم ما لبث أن سمع صوت حفيف ورق النقود، ففاق بسرعة قائلا والابتسامة العريضة على وجهه بانت على إثرها معظم أسنانه حتى ضرس العقل الذي يؤلمه ويعذبه يوميا.

- إيه يا عم شكلك كده هتشبرقنا الليله دية ..

- وإذا بصاحبه ينقلب جادا وصارما، كأنه خرج من كتاب البخلاء.

- خذ فلوسك واذلف عن ويهي يلا ترى إللي فيني مكفيني.

- قالها وقد هم بالخروج من المقهى، وهو يكلم نفسه بجمل مبهمة ... أما عامل القهوة الذي تنحى عن طريقه فزعا، أخذ النقود وهو ينظر إليها باستغراب قائلا:

- اللا هو في إيه مالو النهارده مش على بعضو ليه، ما كان كويس قبل ما يجيه التلفون .. وأنا مالي ..

- ذهب عبد الله إلى سيارته، وشرع فتحها بجهاز عن بعد، فصدر منها صوت صفير كالعادة، مع إضاءة إشارتيها ذاتي اللون البرتقالي يمينا ويسارا، صعد سيارته جيب تويوتا برادو، حديث الصنع، أدار المحرك، وإذا بتسجيل الكاسيت يعمل مباشرة وأغنية فن الصوت لك الجمايل لحمد خليفة، وإذا بقطرات من المطر متباعدة ومتفرقة تنزل على الزجاج الأمامي، وقد لا حظ ذلك قائلا:

- تمطر .. شكل هالشتا راح يدخل علينا مبجر هالسنة .. يلا كله خير.

- قاد سيارته في أول ليل قليل البرودة، وقد فاحت رائحة قطرات المطر التي كانت تتزايد كلما أسرع قليلا بسيارته، أصر باديء الأمر بألا يشغل ما سحتي الزجاج، كما قام بفتح نافذته والنافذة التي بجنبه، وكأنه أراد أن يستنشق هواء نقيا صافيا خالصا مجردا من هموم البلد التي تزايدت وتكاثرت وتراكمت وتبعثرت في السنوات الأخيرة.

- إييه والله ما ندري وين رايحين.

- قالها بحرقة ومرارة وهو يمد يده اليمنى على مفتاح تخفيض صوت التسجيل، وآهات مثخنة بضربات متلاحقة من الخسائر المادية التي مني بها مؤخرا، فبخرت أموال الورث وفلوس مكافأة نهاية الخدمة، ولم يتبق له سوى الراتب التقاعدي، الذي نهش البنك نصفه، التفت إلى يساره وهو يسير بسرعة معتدلة قائلا:

- صدقت يا طويل العمر ( لو دامت لك ما اتصلت لغيرك ) الله يرحمك ويغمد روحك الينة، كنت لنا ...

- بلع ما أراد أن يقول، ونفث زفيره الممزوج بمرارة تبغ الشيشة، وأكمل سيره. وقف عامل القهوة حائرا ولم يبرح مكانه، وبدا وكأنه يكلم نفسه وينظر إلى نقود عبد الله يرفعها تارة وينزلها تارة أخرى، ويحرك يده الأخرى بطريقة عشوائية..

- هو ده بيقول إيه، والله مش فاهم حاجة من كل إللي قاله، إيه خايف وتلات كراسي، وكرسي الحلاق .. كرسي الحلاااااق.. والله معاه حق، ده مرة كانت وداني هطير وأنا عند الحلاق وهو بشد مع زميله الحلاق التاني، ويقوله ده الأهلاوية معفنين وبيجروا ورا الشهرة والفلوس و ..، والتاني يصرخ فيه ده الزملكاوية أولاد ستين في سبعين ..، وده منو كلمة وده منو كلمه، واحد ماسك مقص والتاني ماسك موس، وعمال يشوحو بيديهم، تقولش قاعدين في مدبح، إللي بيحلق لي كان هياكل وداني، بس ربنا ستر وهديتهم وخرجت أجري وقررت مشهحلق عندهم تاني.

- ثم نقل النقود من يده اليمنى إلى يده اليسرى وأنزل يده اليسرى، ومسك ذقنه بيده اليمنى مفكرا ..

- طب والحلاق ده مش جايز جاي من البيت متخانق مع مراته، وعمال يهذي ويروح شاقط وش الزبون، جايز لي لأ.. طب دي وفهمناها، كرسي طبيب الأسنان، لأ سيبك من دي، دية معا حق فيها، أنا نفسي بخاف من الكرسي ده.

- وحنا براحة يده اليمنى على حنكه موضع ضرس العقل الذي يؤلمه من زمن، وأردف قائلا:

- بس اللي محيرني، بيخاف من كرسي الوزارة ليه، لهو مسدق هيبقى وزير، ده عشم أبليس بالجنة.

- بدأ المشرف على المقهى، يناديه بصوت عال.

- أنت يا عوض الله، أنت واقف بتكلم نفسك وسايب طلبات الزباين، ما تيجي تشوف طلباتهم.

- وأنا مالي .. حاضر جاي .. والله عارف أنت عاوز إيه شاي على ميه بيضه ونار هاديه .. حاضر، وأنت شاي كشري فالخمسينة .. حاضر يا عم، وهنا شيشة سلوم حاضر .. هو في حد بيشرب سلوم دلوقت؟! ما علينا .

* كاتب وباحث وأديب كويتي

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي