خواطر صعلوك

سُلم تجريد الكتابة الإبداعية

تصغير
تكبير

كان يمرّ في شارعنا بائع خردة «روبابيكيا»، وهو رجل يشتري الملاعق والجدور والأسلاك والصحون النحاسية والمزهريات الصفراء، وشمَّاعات الملابس وأدوات إلكترونية لا تعمل وأقمشة مستعملة؛ ويضع كل ذلك في عربة يجرها ويجر أمامها خمسين عاماً مضت... ليبيعها في مكان آخر.

وكانت أمي - رحمها الله - لا تجادله في الثمن... تقول له:

- ادفع ما شئت.

كنت أشاهده وأتساءل: «ما الذي يفعله هذا الرجل»، كنت لا أزال في التاسعة من عمري... أفهم التفاصيل ولكني لا أعرف التجريد، أعرف رجلاً وملعقة وعربة ويجر ويبيع ويشتري... ولكني لا أعرف السعي على الرزق ولا الحب والعمل.

الحرية والعدالة والشفافية والرُشد والحكمة والإبداع، كلها مفاهيم في أعلى سُلم التجريد، بعيدة عن الملموس والمحسوس، مفاهيم لا يمكن قياسها أو شمها.

إحدى وظائف الكتابة الإبداعية هي أنها تنتقل بك من الملموس إلى المُجرد، تعطيك العين الثالثة لترى بها الحب والعدل والرحمة والإمكانية.

وبما أنك في رمضان فادخل مطبخ أمك، ولاحظ التفاصيل... كمون ناعم وفلفل أسود وكركم مطحون، بروكلي وقطع دجاج صغيرة ولمعة عين تُراقب النار، زبدة وزيت زيتون وقليلٌ من الملح على رقائق بطاطس ويد تعطي وتُقدم وتُحرك وتُأخر بلا انقطاع، صحون بيضاء عليها رسمة ورد أحمر يغطي أطرافها وقطعة ستيك تم تزيينها بالأخضر والرمادي والمشروم، وملاعق تم تنظيفها باليدين، وأقدام ما زالت واقفة منذ ساعتين، وضيوف قادمون بعد قليل، وأب وأبناء لا يملكون مهارة الصبر في رمضان

هذه التفاصيل التي في مطبخ بيتك، هي ذاتها التفاصيل التي في عربة الخردة... في الأسفل سكاكين حادة وصحون بيضاء وملاعق خشبية ودراعة رمضان، وفي الأعلى تسمو بالكتابة إلى الحب والرحمة والعمل والصبر والعطاء.

الكتابة الإبداعية تصعد بالكاتب والقارئ من الملموس إلى غير المرئي، والقدرة على إدارة سُلم التجريد هي مقدار إبداعك وما يمكن أن تصل إليه... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.

@Moh1alatwan

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي