العلامة الأمين.. حكاية سيّد شجاع أغمض عينيْه ولن يغمد نور فكره
... كأنه لم يكن يكفي، في الطريق إلى الإجهاز على الـ «لبنان»، موطنُ الفكر والثقافة والتنوّع والإبداع، سوى تَكاتُف طغمةٍ من «الجهنميين»، الذين سطوا على البلاد، مع الموت الموسمي الذي يشبه القتل العمد، في تواطؤٍ يجعل الوطنَ الجميلَ حُطاماً منثوراً ويغيّب أعلاماً ومنارات وقامات حتى قبل رحيلها.
فلم يكن «كورونا» الماكر ولا كل الأمراض المستعصية وحدها سبباً لأفول العقول المستنيرة وصداها الرحب، فثمة خناجر كثيرة حفرت لحصارها وعزْلها وإسكاتها وخنْق صوتها، قبل أن تمْضي مهمومةً بشجاعةِ كسْر الصمت وإعلاء الجرأة وصوت الحكمة في زمن قرْقعة الطبول والسكاكين.
صورٌ لثلاثة فرسان جاءت في كادر واحد، العلامة محمد حسن الأمين، وتوأم روحه العلامة هاني فحص ورفيق دربهما سمير فرنجية... ثلاثة نبلاء أجادوا ثلاثية الفكر والحوار والتنوير في سِيَرهم الشخصية ومسيرتهم التي كانت مفتوحةَ العين دائماً على الإنسان وخيْره.
غاب السيد الأمين يوم السبت الماضي، فحضر العلامة فحص من غيابه، وصودف أن إنضم إليهما فرنجية في يوم الذكرى الرابعة لرحيله، فأطلّت من الكادر والصورة... صورةُ لبنان الذي كان، لبنان بهاء الأفكار والتجديد وعمارات الثقافة والحوار وقِيَم التنوّع والحَداثة والهمّ الإنساني.
أغمض العلامة الأمين عينيْه من دون أن يضع القلم في غمده، فصاحبُ العمامة الناصعة السواد سكنتْه ثورةٌ بيضاء على إسوداد الأفكار وسودويّتها، تآخى في عقله الدينُ الإلهي والشعر والأدب والتجديد والحكمة والرزانة والجرأة، فكان كلّ هذا في علاّمة أضحى علامةً فارقة في لبنان والعالميْن العربي والإسلامي.
قارَعَ هذا الآتي من سلاسة أئمة جبل عامل (جنوب لبنان) المسكوتَ عنه في الدين والسياسة والإجتماع الإسلامي... عارَضَ فكرةَ الدولة الدينية، فالدينُ إلهيّ والسلطةُ شأنٌ بشري. إنحازَ للدولة المدنية ولسان حاله فصل الدين عن الدولة. عانَدَ مقولة ولاية الفقيه، فما من ولاية لأحد على أحد. ولم يكن من دعاة الحوار بين المَذاهب إذ لا جدوى منه، فالأهمّ هو الحوار السياسي بين الدول.
لم يُسَلِّم السيد النجفي، بما هو سائدٌ من أفكار في المؤسستين الشيعية والسنية، ناقش وكتب وألّف وحاضَرَ بـ «صوت العقل» الذي كان سيده في إجتهاده وعلى المنابر، في تجديده وعلى صفحات الكتب والمجلات، في المجالس والحوزات والحوارات وعلى الملأ.
كان العلامة الأمين مُقاوِماً قبل أن يصبح لـ «المقاومة» محور. أٌقصاه العدو الإسرائيلي عن صيدا إبان الإجتياح يوم كان قاضياً شرعياً في المدينة التي صارت بيتَه وحسينيته ومسجده وناديه الثقافي، ولجأ إلى بيروت قبل أن يعاود عدو العدو محاولةَ إقصائه ومحاصرته وعزْله.
الرجل، الذي تبتسم فيه الصلابة ويشرق منه الوقار والنقاء، كان إماماً للحرية، خلْفه ماضٍ لا يمضي وأمامه قبلةٌ تحاكي فكره التنويري و... قبلةٌ على خد فلسطين - الأرض والقضية، وعلى خد سورية وثورتها، وعلى وجنتيْ لبنان، الفكرة والمختبر والحوار والعيش الواحد.
ناصَرَ «سيد العقل» الشعبَ السوري، ووقّع على بيان مشترك مع العلامة الراحل هاني فحص، من أجل «إبراء ذمته»، كما قال يومها لـ«الراي» تجاه «إنتمائنا الوطني والقومي والإسلامي والشيعي في آن (...) فالموقف الشيعي الطبيعي هو الإنحياز إلى ثورة الشعب السوري المظلوم في مواجهة نظام مستبدّ».