«الراي» حاورتْه
شاب لبناني يتحدّث 14 لغة.. والحبل عالجرار
اللغات هي بطاقة سفرنا الى العالم أجمع، على أرض الواقع كما في الفضاء الافتراضي. وكلما ازداد عدد اللغات التي نتقنها تَوَسَّعَ أفق التواصل مع الثقافات المختلفة والحضارات المتنوّعة.
بعض الأشخاص يملكون حساً فطرياً يؤهّلهم لتعلّم اللغات وإتقان التحدث بها، فيما بعضهم الآخّر قد يجد صعوبةً بالغةً في اكتساب هذه المهارة.
باتريك الخوري شاب لبناني استطاع بجهده الخاص أن يتقن 14 لغة بطلاقة ويدرّس ثلاثاً منها لطلاب من العالم أجمع وأن يباشر بتعلُّم أربع لغات جديدة ليكون من بين القلة في العالم الذين يمكنهم التواصل بأكثر من 20 لغة.
أسلوبه في تعلّم اللغات وسعيه نحو لغات جديدة نتعرّف إليه في هذه المقابلة.
أن يتكلم اللبناني ثلاث لغات بطلاقةٍ، فهذا أمر طبيعي يكتسبه منذ الصغر. ولذا بحُكم كونه لبنانياً وجد باتريك نفسه يتكلم العربية والفرنسية والإنكليزية بشكل عفوي، أما الإسبانية فقد كان له الحظ بتعلّمها كون جدّته عاشت لفترة طويلة في كولومبيا وأتقنت اللغةَ، ومن خلال تواجده معها باتت الإسبانية كلغةٍ أم بالنسبة إليه يتحدث بها في البيت.
إلى هنا الأمر عادي، لكن في عمر المراهقة بدأ باتريك، الذي يتميّز بحشرية المعرفة، يتساءل كلما زار بلداً برفقة أهله عن اللغة التي يتحدثون بها ويودّ لو يعرف ماذا يُحكى من حوله. وهذه الرغبة بالمعرفة أيقظت لديه شغفاً سيرافقه على مدى السنوات المقبلة.
حشرية تحدّي الذات
عند سؤالنا له عن سرّ هذا الشغف باللغات، لخّص باتريك الأمر أولاً بالحشرية التي كانت دافعاً له لاكتشاف اللغات التي يتحدّث بها الناس من حوله ومعرفة ما يقولونه وتَبادُل الأفكار معهم بلغتهم. وثانياً حب المعرفة واكتشاف الحضارات الغنية وقد أدرك أنه لا يمكن التعمق في اكتشاف حضارة ما دون معرفة لغتها «فحين يفهم الإنسان الحضارة بلغتها الخاصة يكون انتقل الى مستوى أعلى من المعرفة والتعمق. فالحضارة واللغة لا ينفصلان». أما السبب الثالث فهو حب التحدي إذ كلما صعبت اللغة شكلت بالنسبة إليه تحدياً يضع كل طاقته لمواجهته والانتصار فيه.
حب التحدي هذا هو ما دفع بالشاب الصغير الذي لم يكن قد تخطى الـ 15 من عمره الى درس اللغة الألمانية. فقد كان الاعتقاد الشائع من حوله أن الألمانية من أصعب اللغات ولذا أراد أن يتحدى نفسه ويتعلم اللغة من دون أي معلّم أو معهد. وهذا ما فعله، وبستة أشهر كان قادراً على فهم ما يقال وبَلَغَ مستوى متوسطاً. وخلال سنة ونصف بات قادراً على التحدث بالألمانية بطلاقةٍ وإتقانها قراءةً وكتابةً، إلى أن بلغ مرحلة تعليمها بشكل محترف لمَن يرغب عبر منصات تدريسٍ عالمية.
أسلوب باتريك بتعلّم اللغات لا يحتاج إلى معهد او مدرّس بل إلى دافع قوي، فحين ينوي تعلّم لغة جديدة يشتري بدايةً كتاباً خاصاً بتعلّم اللغة مع تسجيل صوتي، وهذا في رأيه هو الأهمّ حيث يمرّن دماغَه على سماع الأصوات باللغة الجديدة على قاعدة أن السمع أساس التعبير. وبعد أن يُنهي الكتاب ويكون قد تعلّم بعض الأساسيات، يدأب على سماع تسجيلات جديدة حول أمور تهمّه باللغة المطلوبة ومشاهدة فيديوات أو حتى حضور مسلسلات قصيرة مع ترجمةٍ أولاً، ثم من دون ترجمة حتى يتآلف تماماً مع اللغة وطريقة لفظها. ويرى باتريك أنه كلما زادت الحماسة لتعلّم لغة صار بالإمكان استقطابها إلينا بدل الذهاب إلى بلادها.
المثابرة قبل الموهبة
على خلاف ما يظن الكثيرون، فإن تعلّم اللغات ليس موهبة فطرية تولد مع الشخص بل هو سعي ومثابرة وحماسة. ويرى باتريك خوري أن كل إنسان قادر على تعلم لغة جديدة إن كانت لديه الحماسة لذلك ولا سيما في أيامنا هذه حيث التطبيقات المتخصصة جعلت الأمر أسهل، معتبراً أن متابعة الفيديوات على «يوتيوب» يشكّل مدرسة في ذاتها «والمهمّ هو التعوّد على الأصوات في اللغة التي يتم درْسها وبعدها تدريب الذاكرة على حفظ الكلمات».
حين يبدأ بتعلّم لغة جديدة، يقوم باتريك بعد الاستماع الى الجمل المحدّدة بتكرارها بصوت مرتفع وإجراء حوار بينه وبين نفسه يتخايل فيه مواقف جديدة تضطره لاستخدام ما تعلّمه، وهكذا يصبح قادراً على سماع نفسه ومتنبهاً لما يقوله. وهذا المونولوغ اليومي يساعده كثيراً على التقدم والسير على طريق إتقان اللغة.
بدايةً كان يظن كسواه أن الأمر موهبة وكان يتمنى لو أنه يملكها ولكن حين بات يتكلم اللغات بطلاقة أدرك أنها ليست حكراً على الموهوبين بل تحتاج إلى متابعة وإصرار. إلا أنه لا ينكر ان البعض لديهم استعداد أكبر من سواهم للاستيعاب والتركيز والحفظ، كما أن الوجود في محيط متعدد اللغات يساعد على اكتسابها.
بعد اتقانه للألمانية، درس الشاب اللبناني اللغة الايطالية التي لم تستغرق معه وقتاً طويلاً إذ كان يكفي أن يزور صديق إيطالي لبنان حتى أجبر نفسه على التحادث معه بهذه اللغة والاستماع إليه يتكلم بها، وبعد بضعة اسابيع بات يتقنها جيداً، لينتقل الى درس البرتغالية واليونانية اللذين صار يتقنهما جيداً. بعدها درس اللغات الهولندية والصربية والسويدية والنرويجية والرومانية وبات قادراً على كتابتها وقراءتها. واليوم هو في صدد تعلُّم الصينية وينوي تعلُّم اليابانية ومن ثم اللغة التركية، من دون أن يُخْفي رغبته بتعلم اللاتينية رغم كونها لغة قديمة.
نسأل باتريك إن كان بالإمكان تعلُّم لغتين جديدتين في وقت واحد فيجيبنا بأنه يقوم بدرس كل لغة على حدة ولا سيما إن كان يبدأ بها من الصفر وذلك لإتاحة الوقت الكافي للدماغ ليستوعب ويهضم اللغة التي يتعلّمها. أما إذا كان يقوم بتحسين مهاراته بلغةٍ يعرفها أصلاً، فيمكن أن يستمر بدرسها بالتوازي مع اللغة الجديدة التي يبدأ بتعلّمها، موضحاً أنه يحاول بداية ألا يدرس قواعد اللغة بل التركيز على التحدّث بها لينتقل بعد ذلك الى التعمّق أكثر في القواعد.
اللغات توحّدهم
في العالم اليوم نحو 8800 لغة حيّة، عدا اللهجات المختلفة. ولا شك في أن ثمة لغات أصعب من سواها ولا سيما حين تختلف أحرفها وأصواتها وطريقة لفظها وحتى طريقة كتابتها عما نعرفه. فاليونانية مثلاً برأي دارس اللغات «لغةٌ صعبة وكلماتها مختلفة عن اللغات الأوروبية ذات الجذور اللاتينية، لكن أصواتها قريبة من العربية. وكذلك تُعتبر الصربية لغة سلافية صعبة لكن أحرفها قريبة من الروسية. أما السويدية فأصعب ما فيها وقع الحروف والموسيقى التي تتضمنها اللغة حيث على مَن يتعلّمها أن يعرف جيداً كيف يصعد ويهبط بالأصوات مراراً في الجملة الواحدة». ويؤكد باتريك أن أذنه الموسيقية ساعدتْه في التفريق بين النوتات المختلفة في اللغة.
قد لا يكون الكلّ مستعدين أو مهيئين لتعلّم لغات جديدة، ولكن مَن يتقنون هذه المهارة يتجمعون في جمعيات أو حلقات متخصصة يتبادلون عبرها الخبرات. وتضمّ مجموعة HYPIA التي ينتمي إليها الشاب اللبناني نحو 80 شخصاً من حول العالم متمرّسين باللغات. وعلى مَن يتقدم للاشتراك أن يتقن 6 لغات على الأقل وأن يُظْهِر للغروب مهاراته اللغوية. القاعدة العامة هي عدم التكلم بالإنكليزية واستعمال اللغات الأخرى، أما عميد المجموعة فهو شخص قادر على التحدث بـ 45 لغة مختلفة.
رغم شغفه باللغات فإن باتريك الخوري معجب بغنى اللغة العربية وغنى لهجاتها المتعددة التي تكاد تشكل لغات في ذاتها.