الكاظمي في السعودية... توازن العراق وتوازن المنطقة
ليست زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي للرياض زيارة عاديّة، خصوصاً في ظلّ التحديات التي تواجه بلده والمنطقة.
زادت هذه التحدّيات زيادة كبيرة منذ حصول الزلزال العراقي الذي تسبّب فيه الاحتلال الأميركي ابتداء من أبريل 2003، وهو زلزال ما زالت أصداؤه وتداعياته تتردّد إلى يومنا هذا.
كانت لهذا الزلزال مقدمات كثيرة أوصلت عملياً الى ارتكاب الولايات المتحدة خطيئة لا تغتفر تمثّلت في تسليم العراق على صحن من فضّة الى ايران بكل ما لديها من حسابات تريد تصفيتها مع هذا البلد.
من بين المقدّمات الحرب العراقية - الإيرانية بين 1980 و1988 ثم الاحتلال العراقي للكويت في العام 1990 الذي غيّر طبيعة العلاقة بين دول مجلس التعاون الخليجي الست من جهة والعراق من جهة أخرى.
استطاع صدّام حسين تحويل العراق الى بعبع تخشاه كلّ دولة من دول مجلس التعاون، بما في ذلك المملكة العربيّة السعودية التي كانت تربطه بها أفضل العلاقات في ظلّ معادلات معيّنة عرفت الرياض كيف المحافظة عليها.
شملت هذه المعادلات الخط الذي بقي مفتوحاً دائماً بين الرياض ودمشق في أيّام حافظ الأسد، على الرغم من وقوف الأخير، من منطلق مذهبي، مع «الجمهورية الإسلاميّة» في حرب السنوات الثماني مع العراق.
تندرج زيارة الكاظمي للرياض والتي كانت متوقعة في يوليو الماضي، لكنّها تأجلت بسبب جراحة في المرارة للملك سلمان، في إطار البحث العراقي المستمر عن توازن في علاقات البلد مع محيطه.
لم يكن تأجيل الزيارة سبباً لأي عرقلة في عملية تطوير العلاقات بين بغداد والرياض وتحويلها الى علاقات طبيعية بين بلدين تربط بينهما مصالح مشتركة كثيرة.
استمرت عملية تطوير العلاقات بين البلدين طوال العام الماضي. شملت زيارة وفد سعودي كبير للعراق وتوقيع اتفاقات في غاية الأهمّية في مجال الاستثمار السعودي في مشاريع في العراق.
كان مهمّا إعادة فتح معبر عرعر الحدودي بين البلدين، وهو معبر صار يعمل 24 ساعة على 24. شيئاً فشيئاً راحت العلاقات السعودية – العراقيّة تأخذ شكلاً حضارياً مرتبطا بالمبادئ والأسس التي تحكم العلاقات بين الدول المجاورة في القرن الواحد والعشرين.
لا يمكن الاستخفاف بالوزن الذي يمثله بلدان مثل السعوديّة والعراق، خصوصاً في ضوء ما يمتلكان من ثروات في مقدّمتها النفط وفي ضوء موقعهما الاستراتيجي.
لهذا السبب، هناك قوى مختلفة في المنطقة لا مصلحة لها في حصول تقارب سعودي - عراقي.
لا شكّ أن إيران تأتي في مقدّمة هذه القوى نظراً إلى أنّها تعتبر أن ما حصل في العام 2003 يمثل نقطة تحوّل على الصعيد الإقليمي.
ليس أصعب من قبول إيران العودة عن نقطة التحوّل هذه التي أدّت الى تحويل العراق بمثابة تابع لها.
من هذا المنطلق، هناك حرب شرسة على مصطفى الكاظمي الذي يسعى، منذ أصبح رئيساً للوزراء، الى عودة العراق الى العراقيين في ظلّ علاقة طيبة بين بغداد وطهران.
ليس مستغرباً أن يكون الكاظمي بدأ في الماضي جولاته الخارجية بزيارة لطهران حيث التقى كبار المسؤولين، بمن في ذلك «المرشد» علي خامنئي.
ما ليس مستغرباً أيضا أن تكون هناك عراضات مسلّحة في شوارع بغداد قامت بها أخيراً جماعة «ربع الله» من أجل تأكيد أن إيران تسيطر على العاصمة العراقيّة.
قبل ذلك في يوليو من العام الماضي، اغتيل المفكّر والباحث هشام الهاشمي الذي ينتمي الى الحلقة القريبة برئيس الوزراء العراقي.
كانت تلك الجريمة بمثابة تتويج لسلسلة من الإشارات التي كان الهدف منها التأكيد للكاظمي بأنّ عليه الامتناع عن التدخل في شؤون لا تعنيه، أي شؤون العراق، خصوصا أنّه، من وجهة نظر طهران، على رأس حكومة «انتقالية».
من بين هذه الشؤون توقيف قوات الأمن العراقية عناصر من «كتائب حزب الله» في جنوب بغداد كانت تعد لاطلاق صواريخ في اتجاه أهداف أميركية في العاصمة العراقية ومحيطها.
ما لبث رئيس الوزراء العراقي أن وجد نفسه، وقتذاك، مجبراً على إطلاق المعتقلين في وقت نزل فيه متظاهرون من «الحشد الشعبي» الى الشارع وداسوا على صوره.
كان قيس الخزعلي، أحد قادة الميليشيات المذهبية العراقية المنضوية في «الحشد الشعبي» واضحاً، وقتذاك، مع الكاظمي عندما عقد مؤتمراً صحافياً اكد فيه لرئيس الوزراء أن مهماته محصورة في تدبير الشؤون المعيشية للعراقيين بعيداً عن المسائل الكبيرة من نوع التصدي للأميركيين في العراق.
مثل هذا الأمر شأن خاص بالميليشيات المذهبية العراقية التي تحرّكها طهران.
بكلام أوضح مطلوب من رئيس الوزراء العراقي الإقرار بانّ بلده مجرّد «ساحة» تلعب فيها ايران.
المطلوب منه التخلي عن أي دور على الصعيد الوطني وعدم الاعتراض على ما تقوم به ايران عبر أدواتها العراقية. على العكس من ذلك، مطلوب منه توفير الحماية للميليشيات العراقية التابعة لإيران.
عوقب مصطفى الكاظمي على تصرّفاته.
عوقب على تدخله في شؤون ايران في العراق.
عوقب بسبب محاولته استرداد الدولة العراقية ومؤسساتها وحصر السلاح في يد الجيش العراقي. عوقب بسبب رهانه على العراقيين وليس على الميليشيات المذهبية العراقية.
دفع هشام الهاشمي وآخرون الثمن.
لم يدفع الثمن لانه كان قريبا من الكاظمي فحسب، بل لأنّه كان يعرف الكثير من التفاصيل عن كلّ ما له علاقة بالأدوات الإيرانية في العراق وغير العراق.
الأهمّ من ذلك كلّه، أنّه كان يعرف «الحشد الشعبي» من داخل ويعرف عمق التجاذبات بين الفصائل التي يتألّف منها والتي بدأت تطفو مع اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.
كان قاسم سليماني المفوّض السامي الإيراني في العراق وكان أبو مهدي المهندس ضمانة، لا بديل منها، للدور الإيراني في العراق.
ما تغيّر بين زيارة الكاظمي للسعودية التي تأجلت الصيف الماضي وتمّت الآن، ان طبيعة التحديات التي تواجه العراق وحكومته ما زالت قائمة.
ما كان يقوله الخزعلي قبل بضعة أشهر، صار يقوله الآن الناطق باسم «ربع الله».
ما لم يتغيّر وجود تصميم على استعادة العراق وضعاً طبيعياً بدل أن يكون جرماً يدور في الفلك الإيراني.
الثابت أن محادثات الكاظمي مع الملك سلمان ووليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان جاءت في سياق استعادة العراق لتوازنه والمنطقة لتوازنها أيضاً انطلاقاً من العراق.
العراق الذي يمتلك علاقات قويّة مع إيران وعلاقات قويّة أيضاً مع محيطه العربي وعلى طول الحدود الطويلة بينه وبين السعوديّة...