No Script

أغطية المناهيل «تبيض ذهباً».. «الحاجة أم الاختراع» في سرقات لبنان

تصغير
تكبير
* آخِر ابتكار.. سيارة «فان» تحوي فتحة في أسفلها تقف فوق المنهول ويقوم مَن فيها بسحب الغطاء * ازدهرت سرقة بطاريات السيارات وبطاريات المولّدات الكهربائية في الأحياء و«الخوف» على خطوط الكهرباء * غطاء المنهول الواحد المسروق يباع لتجار الخردة بما بين 70 الى 100 دولار «طازجة» أو بسعر السوق السوداء * مناهيل «تفتح أفواهها» لابتلاع المارة أو اصطياد سيارات المواطنين وتفجير إطاراتها وتكسير قِطَعِها * بلديةٌ قامت بـ «تصفيح» المناهيل و«حماية» أغطيتها بالباطون
سرقاتٌ مبتكرة من خارج إطار الأنماط و"الأهداف" التقليدية بات يتفنّن بها بعض السارقين في "بلاد الأرز" ... هل هي نتيجة العوز الذي ترزح تحته نسبة كبيرة من الشعب اللبناني بسبب الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة؟ أم وليدة تفلت الأوضاع الأمنية وعدم قدرة السلطات المختصة على كبْح جماح العصابات التي وجدت في الظرف الحالي فرصةً للقيام بـ"نشاطات مربحة" والإفلات من العقاب؟

سرقةُ أغطية ريغارات (مناهيل) مَجاري الصرف الصحي صارتْ ظاهرةً لافتة في بيروت والعديد من المناطق. وكما كل شيء في "بلاد الأرز"، فإن هذه الظاهرة أُعطيتْ في بعض جوانبها أبعاداً "خارجية" بعدما أشارت تقارير إلى أن تشعباتها تمتدّ بين لبنان وسورية في ظل قوانين الحظر المفروضة على الأخيرة ومنْع دخول مواد أولية حيوية إليها.

وبمعزل عن خلفيات هذه "التجارة المزدهرة" وخفاياها، فإن سرقة أغطية ريغارات الصرف الصحي )كما أقنية المياه أحياناً) تحوّلت مشكلةً حقيقية بالنسبة للكثير من البلديات، وأبرزها بلدية بيروت التي يُقَدِّر مُحافِظُها القاضي مروان عبود أعداد أغطية الريغارات المسروقة منها بالآلاف، فيما تتوزع الخسائر على مناطق الجنوب والبقاع وطرابلس بالتساوي تقريباً.


وفيما تتحدث تقارير إعلامية عن نحو عشرة آلاف من أغطية الريغارات "ابتعلتْها" السرقات، فإن الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين يشير عبر "الراي" إلى أن لا احصائيات دقيقة بعد ولا يمكن تقدير العدد الصحيح، ولكنه يؤكد في الوقت ذاته أن السرقات على أنواعها الى تَزايُد مضطرد ولا سيما السيارات التي ارتفعت نسبة السطو عليها العام 2020 بحدود 84 بالمئة أي بمعدل 3 سيارات يومياً.

ويتوقع شمس الدين أن تزداد السرقات وتتنوّع مصادرها. ويمكن الجزم أن نسبة حوادث السرقة وفق الاحصائيات التي نشرتها أخيراً "الدولية للمعلومات" خلال الأشهر الـ 10 الأولى من 2020 ارتفعت 56.3 بالمئة مقارنة بالفترة ذاتها من العام 2019. وفي المقارنة بين شهري اكتوبر 2019 و 2020 بلغت نسبة الارتفاع 92.4 بالمئة. وبمتابعة بيانات قوى الأمن يتبيّن ان السرقات على ازدياد منذ أكتوبر وحتى اليوم.

وبعد سرقة أغطية الريغارات ومع الانقطاع المتواصل للكهرباء يُتوقع أن تكون خطوط الكهرباء هي الهدف الثاني للسرقة ولا سيما أنها من النحاس وهي مادة مطلوبة وعالية السعر اليوم.

كنوز الشوارع "محلَّلة" للسارقين

وكانت المناطق اللبنانية شهدتْ أيضاً موجة سرقة لبطاريات السيارات وبطاريات مولدات الكهرباء المنتشرة في الأحياء والبنايات وديجونكترات الكهرباء وفق ما يقول لـ "الراي" رئيس بلدية عرمون فضيل الجوهري الذي أكد ان البلدية تقوم بدوريات ليل نهار لمنْع حصول مثل هذه الحوادث لكن سوء الحال المادية لدى الكثيرين من شباب اليوم عامل يساهم في زيادة هذا النوع من السرقات الخارجية السريعة.

ويشير رئيس بلدية سن الفيل نبيل كحالة إلى أن السرقات الى ازدياد "ولكن ليس تلك التي كانت تَعْتَمِدُ الكَسْر والخَلْع واقتحام البيوت بل السرقات السريعة التي يقوم بها السارقون وسط الشارع ويفرّون من دون أن يدري أحد بهم".

ويؤكد أن ريغارات ومصبعات الشوارع باتت هدفاً سهلاً لهؤلاء السارقين اذ يعتمدون خطةً لا تثير حولهم الشبهات. وعلى طريقة "الأفلام"، تأتي سيارة "فان" مقفلة تحوي على فتحة أسفلها وتقف للحظة فوق الريغار في وسط الطريق ويقوم مَن فيها بسحب الغطاء إليها بواسطة مشبك ثم تنطلق بسرعة دون أن يدري أحد بها. ولا يمكن لشرطة البلدية وحراس الأحياء ان يقوموا بردعها إلا إذا حصل ذلك بمحض صدفة.

كثيرة ومتشعبة هي الأسباب التي يوردها رئيس البلدية لتفسير أسباب هذه الظاهرة، أوّلها تفشي البطالة والفقر والعوز بين الناس ولا سيما فئة الشباب منهم التي وجدت نفسها في الظروف الاقتصادية التي يعيشها لبنان غير قادرة على تأمين قوتها اليومي فاضطرت إلى الالتحاق بعصابات السرقة أو العمل على سرقات صغيرة تسدّ بها احتياجاتها اليومية. لكن من جهة اخرى يؤكد أن السرقات ليست نابعة فقط من حاجة الناس بل من عدم قدرة البلديات على تأمين حراسة فاعلة لأحيائها بسبب جائحة كورونا من جهة والحَجْر المفروض على الناس والموظفين فيها، ومن جهة أخرى بسبب نقص الموارد المالية للبلديات التي تحدّ أيضاً من قدرتها على تأمين إضاءة ملائمة في الشوارع تمنع حصول عمليات مشبوهة في الليل.

وهكذا، وبـ "تقليب" يوميات السرقات في لبنان يمكن استخلاص أن كل ما يخص الشارع بات هدفا سهلاً أو "مُحَلَّلاً"، بما في ذلك مصابيح الإنارة، وهذا ليس بالأمر المستغرب حين نعرف أن أسعار لمبات الإنارة قد وصلت الى مبالغ جنونية. حتى إطارات السيارات المرمية في البؤر صارت عرضة للسرقة أو لتجارة غير مشروعة إذ يمكن ان يتم شراؤها بأسعار زهيدة ليتم بعدها إحراقها في مناطق بعيدة لاستخراج الألياف النحاسية التي تعصى على الحريق منها. وما شهدته إحدى المناطق الجردية في أعالي جبل لبنان شاهد على ذلك. وهذه الجريمة التي تتعدى السرقة تعتبر جريمة ضد البيئة إذ الكل يعرف اضرار حرق الدواليب وما ينبعث عنها من مواد سامة على صحة الإنسان ورئتيه، وقد أضيف الى ضررها تسرب هذه المواد الى المياه الجوفية في أعالي الجبال التي تعتبر خزاناً للمياه النقية يغذي مناطق كثيرة بمياه الشرب.

شبكات تجارة مشكوك بأمرها

ولكن يبقى السؤال الأبرز ما الذي يستفيده السارقون من كنوز الشارع وأين يصرّفون مسروقاتهم؟

لقد بات واضحاً أن سارقي أغطية الريغارات وكابلات الكهرباء من الشوارع لا يعملون بشكل إفرادي، وإن فعلوا فإن مرجعهم يعود بعد ذلك الى عصابات باتت معروفة وواضحة لدى القوى الأمنية وقد تم القبض على واحدة منها أخيراً. وشبكات التجارة بهذه المسروقات تتخطى السارقين الصغار الذين ينفذون العمليات على الأرض لتكوّن شبكات أعمال كبيرة تتعاطى عمليات البيع بين لبنان وسورية أو بين لبنان وتركيا.

وتتم عمليات المتاجرة بالخردة وفق "نظام معيّن" إذ يَعمد السارقون الصغار أو العصابات الصغيرة الى بيع أغطية الريغارات المسروقة لتجار الخردة بمبلغ يراوح بين 70 الى 100 دولار أميركي (طازجة أو وفق سعر السوق السوداء) للريغار الواحد وهو أمر مفهوم ولا سيما أن زنة الواحد منها تراوح بين 65 الى 100 كيلوغرام وهي مصنوعة من الحديد الصلب الممزوج بمعادن أخرى مثل الماغنيزيوم، ما يجعلها غلّة ثمينة في زمن وصل فيه سعر الحديد الى مستويات قياسية تخطت 550 دولاراً للطن.

وبعد ذلك يقوم تجار الخردة الصغار أو أصحاب البؤر الصغيرة ببيعها الى تاجر أكبر يتولى عملية تصريفها في الدول المجاورة حيث يستفاد من حديدها لأغراض متعددة. ولكن ليس كل ما يباع من المسروقات، بل يمكن أن تكون أيضاً خردة حديدية يجمعها اشخاص من الشوارع أو يشترونها من البيوت بأسعار زهيدة.

خطر قاتل

لكن عملية سرقة الأغطية المعدنية، على اختلاف أبعادها، لا يقتصر ضررُها على صورة لبنان ودوره وعلى نظامه الاقتصادي، بل لها انعكاسات خطرة على حياة اللبنانيين اليومية وعلى صحتهم. فالمجاري المفتوحة باتت أفخاخاً مميتة تتسبب بحوادث سير خطرة قد تودي بحياة أصحابها. وها هي الريغارات "تفتح أفواهها" لابتلاع إما المارة وإما اصطياد سيارات المواطنين وتفجير إطاراتها وتكسير قِطَعها في وقت باتت غالبية المواطنين غير قادرة على إصلاح اي عطل يطرأ على سياراتهم في ضوء بلوغ سعر صرف الدولار عشرة آلاف ليرة. ومن هنا ارتفع صوت جمعيات السلامة المرورية لا سيما " يازا" للمطالبة بإيجاد حل لهذه الفتحات القاتلة في وسط الطرق.

ولم تتوانَ بعض البلديات عن اعتماد إجراءات "ما فوق عادية" تفادياً لـ "حراسةٍ" غير ممكنة على مدار الساعة للريغارات وبما يجعل سرقتَها أشبه بـ "مهمة مستحيلة"، كما فعلت بلدية العربانية - الدليبه (قضاء بعبدا) برئاسة المحامي جهاد رزق الله التي لجأتْ إلى "تصفيح" الريغارات الواقعة ضمن نطاقها البلدي بما يشبه "درع حماية" من السرقة ومن تحوّلها "كمائن" للمارّة، وذلك عبر أعمال صبّ باطون انتشرت صورها على مواقع التواصل الاجتماعي.

من جهة أخرى ساهم فتح أغطية المجاري في تحويل هذه الأخيرة مكباً للنفايات والرمول والبقايا ما سبب في انسدادها وإغراق الشوارع بمياه الأمطار كما المياه الآسنة، وزاد من الضغوط التي يعاني منها أهل لبنان وخصوصاً أن الوزارات المختصة لم تعد قادرة بسبب تقشف الموازنة على شراء أغطية جديدة بأسعار مرتفعة صارت تفوق إمكانات الدولة المفلسة. وقد بدأت بدرْس حلٍّ يقضي باستبدال الأغطية الحديدية بأخرى مصنوعة من البلاستيك المقوّى الذي يصعب بيعه والاستفادة منه.

... إنه المُضْحِك المبكي. قِطَع حديد بالكاد كان اللبناني يلتفت إليها في يوميات ما قبل الانهيار الكبير، تحوّلت في الزمن القاحل ما يشبه "الدجاجة التي تبيض ذهباً" لعصاباتٍ أو محتاجين، ومصدر موتٍ لشعبٍ صار أكثر من نصفه "ع الحديد" ... ولا مِن "رضا ليسمع".

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي