مياس والرجل غير المرئي
- «هذه كانت السلطة، القدرة على التحكم من الظل»
باسمة العنزي*
ما أن تنتهي من قراءة رواية «من الظل» لمايسترو الأدب الإسباني المعاصر خوان خوسيه مياس الصادرة عام 2016، حتى تطلق تنهيدة حزن طويلة! بعد متعة قراءة غير اعتيادية، أنت على وشك مغادرة عالم مياس المدهش، حيث للفانتازيا سطوتها، وللشخصيات امتدادها الميتافيزيقي، وللأحداث ترتيبها الخارج من رحم اللامعقول. قواعد مختلفة للكتابة ممزوجة بتفاصيل اليومي الهامشي، وعالم الأحلام والوساوس، ممتدة لمناطق اللاوعي، نسيج سردي بمفردات رشيقة وساخرة، تستند على وعي المتلقي ومدى استجابته للأفكار الجديدة الباهرة.
تبدأ الرواية القصيرة - المقسمة لثلاثة أجزاء - بحوار دميان مع سيرخيو عبر لقاء تلفزيوني على الهواء مباشرة، وبترجمة فورية للبلدان التي لا تتحدث الإسبانية. هذا اللقاء المتخيل يبدأ كل يوم منذ الصباح حتى المساء! صوت داخلي لصديق غير مرئي وسلبي، اختاره دميان منذ طفولته لينسج معه تفاصيل يومه عبر منولوج ذاتي يتردد صداه داخل استديو برنامج تلفزيوني وأمام جمهور- وهمي - متفاعل. مخرج وكاميرات ونسبة مشاهدة ترتفع، عناصر الوهم في حياة دميان المصاب بالوحدة والهلاوس السمعية.
دميان الشخصية الرئيسية، أربعيني... عازب. عاطل عن العمل بعد أن تم الاستغناء عنه كموظف صيانة، بعد خمس وعشرين سنة. علاقته مضطربة بعائلته المكونة من أب فاتر وأخت صينية بالتبني. يختبئ في خزانة قديمة في محل للأثاث في أحد المولات، ليتم نقله بعد ساعات لمنزل السيدة لوثيا، يقرر الاستقرار في مخبئه الجديد مطورا قدراته في التلصص على عائلة شابة من الطبقة الوسطى، مكونة من الزوج صاحب محل الألعاب الإلكترونية وزوجته لوثيا الموظفة لدى رجل أعمال، وابنة مراهقة تعيش همومها الخاصة من تأخر البلوغ واضطرابات الشهية.
«كنت أكثر حرية من أي وقت مضى. كأن هذه الخزانة مركز الكون، كأن العالم يتمدد من خلالها»
اختفاء دميان داخل خزانة من خشب البلوط بلا أدراج وبثلاثة أبواب، جلبتها لوثيا من ماضيها، بعد عثورها عليها في السوق بالصدفة! خزانة «سينمائية» حسب تعبير ابنتها، تنقلت وعاصرت أحداثا وأشخاصا وأنواعا من الملابس حتى وصلت برائحتها المعتقة المشبعة بالرطوبة والملح الصخري، لتستقر وسط أثاث المنزل من «ايكيا» وبداخلها شبح بشري، متلصص، تعمد المكوث فيها طويلا، حتى باتت جزيرته وهو روبنسن كروزو.
«كان مثل بقاء سمكة الحنكليس في ثغرة بحرية، أو مثل المكوث في فقاعة. العالم كان يتحرك، الأرض كانت تطفو في الفضاء، وأنا كنت أترنح كأني داخل كبسولة، مثل رائد فضاء».
لوثيا بصوتها الغائم، واصبعها المبتور، وخزانة طفولتها القديمة، اخذت مساحتها في السرد حيث تجرى الأحداث في منزلها الصغير بشكل سريع. المذهل في الكتابة «المياسية» أن القارئ كلما ظن أنه أمسك بالحدث الرئيسي اتضح له أنه مجرد تمهيد -بارع- للوصول لحدث آخر مرتبط بحدث أكثر أهمية لاحقا! وهكذا يتصاعد السرد المغلف بكوميديا سوداء، ليتناول أفكارا عميقة وهواجس انسانية لا تخلو منها كتابات مياس القصصية، عن التحول التدريجي من المادية إلى التجرد، عن فقدان الهوية ومحو الشخصية، بالإضافة لمفهوم الحب غير المشروط، والعزلة الاختيارية والتماهي مع العولمة.
«تتحدث عن قبل وصول الخزانة وبعدها مثل المؤرخين حين يتحدثون عن قبل ميلاد المسيح وبعده»
عامل الصيانة ذو المهارة اليدوية الذي تم الاستغناء عنه بعدما تعاقدت شركته مع خدمات صيانة خارجية، في عالم يشتري أشياء جديدة بدل تصليح التالفة، والذي تحول من كائن مضطرب نفسيا، إلى «القائد الشبح» المؤثر في مسار العائلة من الظل، انفصل عن ماضيه وكل ما هو خارجي، مستمتعا بدور الرقيب اللامرئي، يقدم نصائحه متجولا في منتديات متخصصة في الأشباح، مثيرا حماسة رواد الإنترنت لطرح أسئلة من كل نوع.
نهاية الرواية المفاجئة والبعيدة عن أي توقع جاءت لتؤكد على براعة مياس وقدرته الفذة على ربط الأحداث المتتالية للوصول لهدفه في إبهار القارئ.
الرواية جاري العمل على تحويلها لفيلم أسباني، بطولة باكو ليون. وسيكون هناك مشاهدين حقيقيين للبطل دميان وكاميرات ومخرج وتصفيق كما تخيل تماما في برنامجه الحواري!
ترجمة العمل الصادر عام 2017 عن دار المتوسط، للمبدع أحمد عبد اللطيف، الذي ترجم أيضا عدة أعمال لمياس من أهمها مجموعته القصصية «الأشياء تنادينا» الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب 2018، والتي احتوت نص «الرجل غير المرئي» حيث البطلة تحلم أنها تبيع قطع الأثاث من داخل خزانة ثلاثية الأبواب! وشخص يراقب حواراتها دون أن يكون مرئيا بالنسبة لها.
«وكنا نتشاجر لأنك كنت مهووسة بالتعامل مع الزبائن وأنت داخل خزانة من ثلاث أبواب، وكنت أقول لك إن الخزانات توابيت»
هذا هو «مياس». رابط خفي بين نصوصه وروح تحتفي بالغرابة والحداثة، سرد ساخر يتناول بطريقة رمزية واقع المجتمعات اقتصاديا وسياسيا. بيد أن القارئ العربي-لسوء حظه - لن يتمكن من الحصول على إصداراته المترجمة للعربية - أغلبها طبعات قديمة ونافدة عن هيئات ثقافية - ولو حدث وحظي بفرصة القراءة له سيشعر أنه تأخر طويلا في التعرف على «المايسترو» والاقتراب من عالمه الساحر!
* كاتبة وأديبة كويتية