No Script

مسعفون منهكون في «مهمات مستحيلة» بوجه «كورونا»

«الراي» على الخط الأمامي مع الصليب الأحمر اللبناني

تصغير
تكبير

أكثر من 4275 اتصالاً تلقّتْها غرفة العمليات في 24 ساعة وأكثر من 1220 مصاباً تم نقلهم الى المستشفيات في غضون عشرة أيام؛ أرقام مخيفة تختصر ما يعيشه الصليب الأحمر اللبناني اليوم والضغط الذي يعانيه طاقم غرفة العمليات والمسعفون في مختلف المراكز.

«كورونا» الجامح خرج عن السيطرة وارتفعت معه الإصابات الى مستوى غير مسبوق ناهز في ذروته 6200 إصابة، اليوم الجمعة، وأكثر من 40 حالة وفاة مع نسبة فحوص إيجابية قياسية لامستْ 25 في المئة، كلها مؤشرات جعلت لبنان يدخل top 5 الدول الأكثر تسجيلاً لإصابات (لكل مليون).

ومع ارتفاع أعداد المصابين بعد الفوضى الكبيرة التي شهدها موسم الأعياد وتفلت الناس من الإجراءات الاحترازية، وحاجة العديد منهم الى عناية طبية، تضاعفت عشرات المرات مهمات الصليب الأحمر بنقل المصابين الى مستشفيات باتت ممتلئة حتى التخمة ولم تعد فيها أسرّة للعناية الفائقة.



واقع صعب يأتي ليتوج سنة مرهقة أليمة استنزفت قوى الجهات المُسْعِفة التي حاربت على أكثر من جبهة: من جائحة «كورونا» في بداياتها وما رافقها من ذعر وحذر، مروراً بإنفجار مرفأ بيروت الهائل وما خلفه من آثار كارثية وأعداد هائلة من الضحايا والمصابين، وصولاً الى استشراس «كوفيد 19» وحصده لآلاف المصابين يومياً.

كوارث متلاحقة كانت كفيلة بهدّ أكثر الناس مثابرة وإيماناً بدورهم، وبتقويض قدرتهم على الاستمرار. لكن الصليب الأحمر اللبناني لم ينحنِ تحت وطأة الصعاب بل استجمع شجاعة مسؤوليه ومسعفيه ليواجه الجائحة بعزم وتصميم وإن على حساب راحة مسعفيه وقدرتهم على الاستمرار.

أكثر من مسعف التقتهم «الراي» لتجول معهم في يومياتهم في زمن «كورونا» الشرس. الأسماء مموَّهة غير حقيقية وفق ما يفرضه قانون الصليب الأحمر، لكن الصعوبات حقيقية يتشارك بها كل من التقتْهم «الراي».

ساندرا، متطوّعة شابة في مركز يضم 100 متطوع. تبدأ مناوبتها عند الخامسة بعد الظهر حتى الساعة السادسة والنصف صباحاً. تخبرنا صراحة ان المسعفين لا ينامون، فالمهمات تفوق قدراتهم وبالكاد يلحقون على توليها جميعها. ففي الليلة الواحدة أخيراً باتوا ينقلون ما يزيد عن 20 إصابة «كورونا»، وبين مريض وآخَر، عليهم أن يبدلوا ملابسهم الخاصة بكورونا، أو ما يعرف بـTyvek وهذا وحده يتطلب أكثر من نصف ساعة، وعليهم تعقيم سيارة الإسعاف بأكملها قبل الانطلاق لحمل مريض آخَر.

ساندرا لا تخشى التقاط العدوى، فالملابس التي يرتديها المسعفون آمنة جداً وكذلك تصرفهم مع المريض، لكن ما يزعجها هو الغثيان الذي تشعر به في الطريق بسبب الزي الخاص بكورونا الذي يكاد يقطع عنها النَفَس، والضبابية التي تطال العيون بفعل النظارات الخاصة التي تمنعها من الرؤية بوضوح. و تقول: «أُصبت يوماً بصداع شديد نتيجة النظارات المشدودة التي لم أتمكن من فكها خوفاً من التقاط العدوى، وكان وقتها الطريق طويلاً من بيروت الى طرابلس لإيجاد مستشفى يستطيع استقبال المريض، لكنني تحاملتُ على نفسي لأستمر في طمأنة المصاب الخائف».

مرضى على أبواب المستشفيات

وتقول زميلة لها: «رغم صعوبة ارتداء الزي الخاص وما يسببه من إزعاج، إلا ان ليس هذا ما يقلقنا بل خوفنا أن نصل بالمريض الى المستشفى ولا نجد له مكاناً. فالمريض مسؤوليتنا، ولا يمكن ان نلقي به على الباب كما يشاع، بل علينا بذل المستحيل بالتعاون مع غرفة العمليات لإيصاله الى المستشفى. لكننا نرى بأم العين أن مستشفيات بيروت باتت ممتلئة فعلاً وهو واقع مؤلم يضعنا جميعاً تحت ضغوط كبيرة تجبرنا أحياناً على رفع الصوت والتهديد. وقد اضطررنا مرة الى إدخال عجوز مصاب الى قسم الأطفال لينال العناية المطلوبة». وتضيف: «اليوم ولشدّة الزحمة بسبب تزايد حالات كورونا، نحن مضطرون الى الانتظار بالصف خلف غيرنا من سيارات الإسعاف ليصل دورنا في إنزال المريض الذي غالباً ما يكون عجوزاً خائفاً مُنْهَكاً وحيداً في سيارة الإسعاف. ورغم كل ما نشعر به من تعب علينا ان نطمئنه ونهدئ من روعه ونقدّم له كامل الدعم في انتظار تسليمه الى المستشفى، وإذا احتاج للأوكسجين نمدّه به في السيارة».

وتروي المسعفة قائلة: «بعض المرضى الخائفين ينزعون الأوكسجين لا إرادياً ويصابون بحالة من التشنج والذعر. لكننا نتعامل مع الموضوع بروية ونحاول التخفيف عنهم قدر الإمكان في انتظار بلوغ المستشفى. على أن الأسوأ يبقى حين نضطر لأن ندور بالمريض من مستشفى الى آخَر لإيجاد مكان له فيما هو يكاد يختنق.»

هالة، بالكاد تستطيع حبْس دموعها وهي تروي لنا أسوأ موقف اختبرته في حياتها حين اضطرت مع رفاقها لترْك مريض على باب إحدى المستشفيات لإجبارها على استقباله نظراً لسوء حاله وعدم إمكان نقله الى مستشفى ابعد. وتقول: «كمسعفة أتعلّق بالمريض الذي ننقله حتى ولو لم أره لأكثر من خمس أو عشر دقائق، وأشعر بأنه بات مسؤوليتي وبأن عليّ بذل المستحيل لإنقاذه، ولذا شعرتُ بجرح مفتوح في قلبي حين اضطررنا لإنزال مريضنا على باب المستشفى وتذكّرتُ نظرة الأهل الخائفين الذين وضعوا كل ثقتهم بنا وكأن عملنا هو الحد الفاصل بين حياة المريض وموته. أحسستُ بأنني خيبت آمالهم وأمل المريض الذي وضع ثقته بي... لكن ظروف المستشفيات أقوى منا...».

الاستسلام ممنوع

وتتوالى القصص، موجعة مؤثرة حزينة تروي كلها الواقع المُرّ الذي تعيشه هيئات الإسعاف في لبنان مع بلوغ «كورونا» ذروة قسوته ووصول قدرة المستشفيات الإستيعابية الى حدها الأقصى.

مسعفون ومسعفات بلغوا هم أيضاً كسائر القطاع الطبي والتمريضي في لبنان مرحلة الامتلاء التي لم يعودوا معها قادرين على احتمال المزيد. لكن الاستسلام غير وارد كما يقول ريشارد: «كل يوم نقول فيما بيننا إننا تعبنا ولم نعد قادرين على الاستمرار بهذا النمط المتسارع الجهنمي... لكن الفكرة وإن عبرت ذهننا للحظات سرعان ما تختفي ليحل محلها سؤال أشد إلحاحاً: إن لم ننقل هؤلاء المرضى وغالبيتهم من المسنّين المتعبين، فمَن سيقوم بالمهمة؟ ما ذنب هؤلاء لنتخلى عنهم في عزّ حاجتهم إلينا؟ فيعود الجواب ليمدّنا بالقوة لمتابعة مهمتنا ولو على حساب راحتنا وصحتنا». وهنا تتدخل رفيقة له لتقول: «قد تخطر فكرة الاستسلام في بالنا بعد أن ننفذ مهمتنا، لكن أثناء المهمة يكون كل تركيزنا منصبّاً على إنقاذ المريض الذي بين أيدينا وإيصاله الى المستشفى. حينها يختفي كل تفكير بالذات أو شعور بالتعب والخوف من العدوى ليكون المريض أولويتنا. وهذا ليس أمراً نتعلمه خلال فترة تدريبنا بل يولد فينا حين نجد أنفسنا أمام مريض ليس له أحد سوانا في هذه الفترة التي يستغرقها وصوله الى المستشفى، ولا سيما ان مرضى»كورونا«يكونون وحدهم دون أهل أو مقربين... ما أن نسمع بوجود حالة كورونا طارئة حتى نستعيد قوتنا ونهرع لنجدتها حتى ولو لم ننم لعدة ليال متواصلة».

دروس في الحياة

ينسون أنفسهم، يتجاهلون إمكانية العدوى، يتحدّون التعب، فهم في عزّ شبابهم وعطائهم لكن بين أيديهم مرضى مسنين خائفين يسيرون معهم في طريق يجهلون نهايته. تقول إحدى المسعفات: «لقد تعلّمتُ من هؤلاء المرضى الكبار في السن أكثر بكثير مما أفدتهم. تعلّمتُ حب الحياة وضرورة الاستمتاع بها والاستفادة منها ما دمنا قادرين. نقلنا مريضاً مسنّاً متعباً لكنه كان يبتسم ويجاهد أمامنا وأخبرنا أنه غير خائف من الموت فقد عاش حياته وطلب منا الانتباه الى أنفسنا... ومسنّة تكاد تختنق أمسكت بيدي وقالت بصوت متهدج:»يعطيك العافية«وحينها شعرتُ وكأنني أمتلك الدنيا. نسيتُ كل التعب وأردتُ فقط أن اشدّ على يدها وأوصلها الى بر الأمان. ولا أنسى أحد المرضى المسنين وكان يئن من ألم بسبب وركه المكسور، وقد أمسك بكتف مسعف وبدأ يمازحه ويغني له... هذه قصص لا يمكن نسيانها ما حيينا حفرت في نفوسنا وقلبت حياتنا الى الأبد».

الجائحة غيّرتْ حياتهم الى الأبد وأعطت بُعْداً آخَر لعملهم الإنساني. في عزّ المعركة لم يكتفوا بتلبية نداء الواجب كما في سائر البلدان، حيث الواجب عبء تتشاركه جهات كثيرة، بل واجهوا «كورونا» باللحم الحي. ولكن ماذا عن أهلهم وما يعيشونه من خوف في بلد تتعدد فيه أسباب القلق والخوف؟

«القلق دائماً موجود» تقول إحدى الأمهات، «هو رفيق دربنا وخبز يومنا. نخاف عليهم نقلق ونتوتر نمضي ليالينا ساهرين في انتظار عودتهم، نتخايل الفيروس وحشاً يتربص بهم، نودّ حمايتهم منه وتسييج أسوار حولهم، لكن في قرارة نفسنا يتغلب الفخر على الخوف... فهل أعظم من ولدٍ ربيناه بدمع العين يبذل كل جهده لينقذ أرواحاً ويردّها سالمة الى أهلها أو أبنائها ومُحِبّيها؟»... هذا لسان الأهل جميعهم يفخرون بأبنائهم المسعفين ويفتقدون وجودهم في البيت بعدما فرضت عليهم ظروف «كورونا» إما التواجد في المراكز أو في أماكن الحجر بعيداً عن الأهل.

وتروي إحدى الأمهات ان ابنتها المسعفة خضعت منذ بداية الجائحة حتى اليوم الى 14 فحص PCR وفي كل مرة تحجر نفسها بعيداً عن البيت: «أعيش كل مرة حالة قلق وترقب في انتظار النتيجة، لكنني تعوّدت على التعايش مع القلق رغم تأنيبي الدائم لها لدفْعها إلى المزيد من الحذر و الوقاية». اما المسعفة فتؤكد لنا «أن صحة المسعفين وسلامتهم أولوية دائمة، ولذا فإمكان التقاط العدوى أشدّ احتمالاً في الحياة اليومية مما هي مع المصابين وفي المراكز»، وتضيف: «هذا ما أحاول دوماً شرحه لأهلي، وأعلم في قرارة نفسي أن خوفهم مشروع، لكن لكل المصابين أهل يخافون عليهم فهل خوفهم أقلّ شأناً من قلق أهلي؟ إنه واجبنا اخترناه بأنفسنا حين تطوّعناـ فهل نتخلى عنه في عزّ الأزمة؟».

هنيئاً للبنان بشبابه وشاباته الذي يحملون الوطن الصغير على أكتافهم، يكفكفون دموعه ويقدمون يد العون والإسعاف لكل مصابيه، يتحملون فوق طاقتهم في بلد صارت فيه المصائب خبزاً يومياً والمرض وحشاً رابضاً يزداد شراسة يوماً بعد يوم.



الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي