No Script

رواق

حصة ناصر

تصغير
تكبير

في طفولتي عرفت أن الشيخ صباح الأحمد - رحمه الله - كان يكنّى بوناصر، ولم أكن متأكدة من وجود هذا الناصر وسط حضور سلوى، لكون الرجال عادة يكنّون بأبناء مفترضين حين يرزقون بالبنات، ثم اكتشفت وجود ناصر الخفي، في ظل بيت بو ناصر تاركاً لوالده كل الضوء.

ثم عرفتها قبل أن أعرفه، في منتصف التسعينات، أو آخرها، شعلة نشاط متقدة، كان زوجها وقودها الخفي، الذي اعتاد الظل ليترك لها الأضواء، ففي بداية حياتي الصحافية أنجزت تحقيقاً صحافياً شهيراً في ذلك الوقت، اسمه الحكومة النسائية، شكّلت فيها وزارة كاملة من النساء ترأسها امرأة، كانت حكومة ظل على ورق، خَشيت بعض الصحف أن تنشرها، ونشرتها مجلة «الحدث».

حملت الشيخة حصة صباح السالم - حرم الشيخ ناصر صباح الأحمد - حقيبة وزارة الأشغال، لسبب معروف، مفاده اهتمامها الشديد بالآثار الإسلامية، وبعد نشر التحقيق، أردت استمزاج آراء وزيراتي، هل أفشي سراً إن قلت إنها الأسهل وصولاً، والأسرع استجابة، والأكثر سماحة، وهي تجيب بابتسامة ضاحكة عبر الأسلاك: والله يا ريم أنا لا أصلح أن أكون وزيرة على الإطلاق، وأمام إصراري على استخراج جواب منها عن سؤال: ما أول قرار تتخذينه لو حملتِ حقيبة «الأشغال»، ردّت بتواضع المسؤولية (لاحظوا أنها ابنة أمير الكويت السابق، وزوجة ابن أخ أمير الكويت الحالي في ذلك الوقت): لو بيدي لحافظت على بيوت الكويت القديمة، وأول قرار أتخذه هو ترميم بيت خزعل على الطراز نفسه للحفاظ على أصالته!

بعد عام واحد من الحدث، ونشر التحقيق في مجلة «الحدث»، وقتها كتب الشيخ ناصر صباح الأحمد - رحمه الله - مقالة عنوانها: «سيدي سرحهم وتوكل»، رفضت كل الصحف نشرها وتم تداولها عبر أجهزة الفاكس، ثم بعد أقل من عام، حدث ما لم يكن متوقعاً، اشترى ناصر مجلة ذات تصريح سياسي، اسمها الزمن، لينشر فيها ما يشاء.

يعد صدور مجلة «الزمن» بمثابة ثورة ناصر الثالثة: (كما عرفت لاحقاً) الأولى: عبر وثيقة أبناء الأسرة، والثانية: فاكس المقالة، أما الثالثة فكانت المجلة التي رُشحت للعمل فيها، لكن ذلك لم يحدث كما لم يُكتب للمجلة الاستمرار.

منذ ذلك الوقت أدركت أن ناصر صباح الأحمد - رحمه الله - كان لا يجيد التعلّق بالحبال «الذايبة»، بل يجرّها ويتركها لغيره ليصل عبرها، أو من خلالها إلى جُزر أحلامه، منذ رئاسة التحرير مروراً بوزارة الديوان الأميري، وصولاً إلى وزارة الدفاع، وقد غادرها «الثلاث بالثلاث».

لكن ناصر اعتاد ألّا يغادرنا حين يرحل عنا، والدليل محبة الناس التي جسدّت المثل الكويتي الشهير: الله لا يوريك غلاك أي لا يمسّك مكروه فترى من خلاله تدافع الناس من محبتهم لك، لكن ناصر لم ير غلاه، فغادر بعد أن استشعر الغدر ليرتاح جسده بجوار والده، سبحان الله، وكأن روحه معلّقة بروحه.

هذا ناصر... ثم نعود إلى حصة، فطيلة حضور ناصر اختفت حصة، وكأنها اختارت الظل حين اختار الضوء، مثلما اختار الظل حين كانت في الضوء، لم تلعب دور السيدة الأولى حين كان زوجها النائب الأول، بل كانت تكنس فناء منزلها حين كان يحاول اجتثاث الفساد، تذكرون الفيديو الذي تم تداوله في الخدمات الإخبارية لسيدة كويتية تكنس الشارع أمام منزلها، كانت هذه هي حصة التواضع الشامخ والنقاء المخجل، بعد مرض زوجها، سألتُ بعض الأطباء والطبيبات في مستشفى الأحمدي، وبعضهم في الطاقم الطبي المشرف على حالته، فلم يحدثوني عن مرضه قدر حديثهم عن ولاء ووفاء زوجته، وعن حميمية تعاملها، وهي تنادي كل شخص باسمه بعد أن تقرأ الاسم من الهوية المعلقة، وتهتم بهم أكثر من اهتمامهم بزوجها فتخجلهم ليهتموا أكثر!

تذكّرت صوتها قبل نحو عشرين عاماً عبر الأسلاك وترديدها: والله يا ريم رداً على كل سؤال، وعرفت أن أصالتها لم تغيّر طباعها عبر الزمن، توقعت أن ينتصر ناصر على المرض متسلحاً بحب حصة.

لكن حصة رحل ناصرها، وبقي لنا منه حصة، التي لم تكن وحدها التي تحبُّ ناصر.

كلنا نحبكما.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي