المُخدِّرات و«الموافقة المستنيرة»... في ضوء الأخلاقيات الطبية
في سياق تفاعلاتي الشخصية وخبراتي المهنية التي اكتسبتها وما زلت أكتسبها من خلال ممارستي العملية كطبيبة أسنان في انكلترا، يحصل بين الحين والآخر أن يُصارحني بعض مرضاي بأنهم يتعاطون واحداً أو أكثر من العقاقير الترفيهية، بل إن بعضهم يفصحون عن أنهم تحت تأثير أحد تلك العقاقير خلال الزيارة العلاجية ذاتها!
وكما نعلم، فإن الجهاز العصبي البشري هو شبكة شديدة الحساسية والتعقيد، ويتولى الدماغ مهمة تنظيمها والسيطرة عليها. فكل خلية عصبية تبث معلومات وإشارات إلى الخلايا العصبية المجاورة لها، وهو الأمر الذي يؤدي تالياً إلى إطلاق نواقل عصبية تتنوع تأثيراتها حسب المُستقبلات العصبية التي تستجيب لها.
وقد أثبتت نتائج بحثية أن العقاقير الترفيهية المخدرة تثير اختلالات واضطرابات في آلية عمل تلك النواقل العصبية. فالكوكايين والميثامفيتامين - على سبيل المثال - يتسببان في تنشيط وتحفيز المستقبلات العصبية الحسية على نحو مفرط، ما يؤدي إلى استثارة تأثيرات حادة ممتعة ظاهرياً لكنها سلبية في حقيقتها، ومن بينها: زيادة مستوى الطاقة والشعور بالنشوة والانتباه الذهني.
كما ثبُت أن تعاطي حشيشة الماريجوانا يؤدي في نهاية المطاف إلى إحداث اختلال في التركيز والذاكرة، فضلاً عن التسبب في تغييرات في تركيبة المادتين البيضاء والرمادية في الدماغ بما ينعكس سلبياً على وظائفه ونموه.
ومن منظور هذا الواقع العملي، اكتشفت وجود جوانب غموض لم أكن أتخيلها في ما يتعلق بالتطبيق العملي لمبدأ «الموافقة المستنيرة» (valid consent) في مجال الطب عموماً، علماً بأن مصطلح «الموافقة المستنيرة» يشير في ذلك المجال إلى «الإقرار والرضا اللذين يبديهما المريض (أو ولي أمره) مسبقاً على أن يتعاطى عقاقير معينة أو أن يخضع لتدخلات طبية معينة في ضوء المعلومات والتحذيرات الصحيحة التي ينبغي أن يزوده بها طبيبه المعالج قبل أن يصف له تلك العقاقير أو يشرع في تنفيذ تلك التدخلات».
فوفقاً لأصول الأخلاقيات الطبية، أرى أنه من غير المقبول أن توصف الموافقة من جانب المريض بأنها «مُستنيرة» إلا عندما يكون متمتعاً بكامل القدرة والأهلية على الفهم الكامل للعلاجات المقترحة، والتقدير السليم لحجم فوائده في مقابل مخاطره المحتملة، ثم إبلاغ طبيبه المعالج لاحقاً بتأثيرات ونتائج تلك العلاجات أولاً بأول.
إلا أن ما أجده بين الحين والآخر على أرض الواقع العملي هو أن بعض مرضاي يكونون مستوفين لهذه المتطلبات، لكنهم في الوقت ذاته يُقرّون لي طوعاً خلال الزيارة العلاجية ذاتها بأنهم تحت تأثير عقاقير ترفيهية مخدرة أو أنهم يتعاطون مثل تلك العقاقير بانتظام.
لذا، فإنني أجدني ملزمة - من منطلق الأخلاقيات الطبية - بأن أطرح التساؤل التالي بنبرة التعجب الممزوج ببعض الاستنكار: إذا كان المريض مستوفياً لجميع اشتراطات وجوانب «الموافقة» لكنه يُقرّ في الوقت ذاته بأن عقله محكوم بتأثيرات تلك العقاقير الترفيهية، فهل بوسعنا أن نعتبر موافقته «مستنيرة» حقاً؟
ختاماً، صحيح أنه ليس هناك محل لطرح هذا السؤال عندما يتعلق الأمر بالحالات التي يتعين فيها وضع مصلحة المريض أولاً بإعطائه عقاقير معينة لتسكين آلامه على الفور أو كإجراء إسعافي عاجل، لكن في خارج ذلك الإطار ينبغي أن يُعاد تقييم تطبيق مبدأ «الموافقة المستنيرة» في ضوء ما إذا كان من المنطق الأخلاقي الطبي أن يصف الطبيب لمريضه عقاقير ذات مخاطر محتملة ليتعاطاها بشكل روتيني في الوقت الذي يعلم فيه الطبيب أن ذلك المريض يكون بانتظام تحت تأثير العقاقير الترفيهية المخدرة والمؤثرات الذهنية.
* طبيبة أسنان بمستشفى ليفربول، انكلترا.
والمقالة نُشرت لها في مجلة طب الأسنان البريطانية
(British Dental Journal (BDJ