«الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى»، ربما كان هذا المثل الأكثر ملائمة لاستهلال مقالتي التي أتناول فيها من جوانب عدة جودة الصحة النفسية وأثارها على حياة الفرد والسمات التي تميز الأفراد والمجتمعات التي يعاني أفرادها الاضطرابات والأمراض النفسية.
وسأتطرق بالطبع إلى الأثار النفسية التي خلّفتها تفشي الأوبئة في عالمنا الآن، على جودة الصحة النفسية للأفراد في الدول النامية والمتقدمة.
إن تفشي جائحة كورونا - التي ما زالت تخنق العالم - أدى لتدهور مُريع في الصحة النفسية للأفراد في أغلب المجتمعات البشرية التي عانت جراء الجائحة بسبب حالات الإغلاق المستمرة من أمراض الاكتئاب والقلق والخوف والعزلة وفقدان الأمن الوظيفي، فليس من السهولة بمكان الكتابة عن الصحة النفسية، ضمن مقال صحافي ذلك لأن الموضوع أقرب إلى البحوث العلمية ذات الصبغة الأكاديمية التي تفترض عادة توثيق المعلومات وتحديد المشكلة ونطاق البحث، فضلاً عن أن كل ما يتعلق بالنفس والشعور من علل وعوارض مرضية يصعب توصيفه بدقة ضمن مقال صحافي، لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.
وبالعودة للمثل في المقدمة أعلاه يتضح - بلا جدال - أن الصحة بمفهومها الشامل النفسية والجسدية والعقلية، من الأشياء الأساسية في حياة الانسان، التي لا تقدر بثمن فهي كتاج ورمز السلطان والقوة، وركن جوهري في الحياة وفقدانها أو تراجعها وانحسارها عن حياة الانسان يعادل الضياع.
وحسب تعريف العاملين في حقل الدراسات النفسية، أو علم النفس هي حالة من العافية يمكن فيها للفرد تكريس قدراته الخاصة، والتكيّف مع أنواع الاجهاد العادية وغير العادية والعمل بتفانٍ وفعالية والاسهام في تطور مجتمعه، فهي بهذا المفهوم البسيط تعني شعور الفرد بالاستقرار والطمأنينة النفسية والأمن الداخلي، بعيداً عن الصراعات والمخاوف النفسية ويقود ذلك بالنتيجة الايجابية لتعزيز القدرة على التكيف مع متغيرات الحياة وتحمل ضغوطاتها ومسؤولياتها، وتجاوزها بسلام من دون أضرار نفسية وجسدية.
إذاً فالصحة النفسية لا تنفصل عن الصحة الجسدية والعقلية، ولا يمكن بأي حال تصور حياة مستقرة ومزدهرة بمعزل عن صحة النفس والجسد، فالمجتمع الذي يتمتع أفراده بجودة الصحة النفسية هو مجتمع معافى ومتقدم باستمرار، لأن الأفراد الأسوياء هم أشخاص منتجون وإيجابيون فضلاً عن أنّ الأفراد الذين يعيشون في مجتمعات مستقرة اقتصادياً يتمتعون بصحة نفسية جيدة ترتفع لديهم احتمالات العيش بحياة هانئة وسعيدة وخالية من الاضطرابات النفسية، والعكس صحيح فالمجتمعات التي تعيش في دوامة الأزمات الاقتصادية والنزاعات المسلحة والحروب، حيث يفارق الناس الحياة ببساطة يومياً ليس بسبب الرصاص المتطاير فوق رؤوسهم فحسب، وإنما لظروف الحياة البائسة التعيسة وضغوطاتها الكبيرة والكثيرة، وحيث تسود النزعة التشاؤمية للحياة والمصير الانساني المضطرب... في ظل تلك الظروف تتفشى الأمراض النفسية كالاكتئاب والقلق والخوف والغضب.
إذاً ترتبط الصحة النفسية بالصحة الجسدية والعقلية، فلا تكتمل الصحة الجسدية والعقلية بمعزل عن الصحة النفسية التي تدفع الإنسان ليحيا بسعادة وبطريقة أفضل، إن جودة الصحة النفسية والمعافاة تُعتبر من الأمور الأساسية لتوطيد قدراتنا الجماعية والفردية على التفكير الايجابي والتأثر والتفاعل مع بعضنا البعض كبشر وكسب لقمة العيش والتمتع بالحياة، لذا فإن تعزيز الصحة النفسية وحمايتها واستعادتها، يُعد شاغلاً حيوياً وجوهرياً للأفراد والمجتمعات الإنسانية في جميع أنحاء العالم لحماية الإنسان من ما تحمله الحياة من تقلبات وصدمات.
وها نحن مقبلون على عام جديد لا نعلم ماذا يحمل لنا في طيات أيامه، فلنجعل من ضمن قائمة أولوياتنا وأمنياتنا بل أولى أولوياتنا الاهتمام والاعتناء بجودة صحتنا النفسية، لتصبح واقياً لنا يحمينا من كل متغيرات وظروف الحياة المتقلبة من دون التأثر بها بشكل سلبي، سواء من الناحية النفسية أو الجسدية أو العقلية، حتى نتمكن من العيش بأمان في عالم مضطرب.
Twitter: t_almutairi
Instagram: t_almutairii
talmutairi@hotmail.com