لبنان أسير تضاؤل مساحة «المساكنة» بين المجتمع الدولي وإيران
الحريري رمى الكرة في ملعب عون وقدّم تشكيلة من 18 وزيراً
لم يسبق لبنان أن ظَهَرَ مسلوبَ الإرادةِ والقرارِ وبطبقةٍ سياسيةٍ يتعاطى الخارج مع غالبيتها على أنها «غير راشدة» ومع القسم الباقي على أنه يأخذ البلد «رهينةً» كما هي حاله البائسة هذه الأيام.
وهذا التوصيف بات «أقلّ ما يقال» في الكواليس في ظلّ ما يشبه «الوصاية الدولية» غير المعلَنة على «بلاد الأرز» من بوابة الانهيار المالي المتدحْرج والذي لا مخْرج منه إلا بـ «سيبة» دعْمٍ أميركي - أوروبي - عربي له دفتر شروطٍ إصلاحيّ صارم، كما سياسيّ، يتصل بما يوصف بأنه «وصاية إيرانية» تحت مسمى النفوذ الكبير لـ «حزب الله» في الواقع اللبناني وتكريسه ساحةً للمحور الذي تقوده طهران والذي «يتلاحم» مع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة بمواجهةٍ مفتوحة على شتى الاحتمالات في الأسابيع الخمسة المقبلة.
ومن هذه الزواية، تحرص أوساط واسعة الاطلاع على تفادي الغرق في تفاصيل المناورات المستعادة في مسار تأليف الحكومة و«حزّورة» هل «تلد اليوم أو غداً أو أبدا»، لافتةً إلى أن من غير الواقعية مقاربة هذا الملف بمعزل عن «مسرح العمليات» السياسي - الأمني الإقليمي والذي بدا فيه أن واشنطن (في آخِر أيام دونالد ترامب في البيت الأبيض) وطهران انتقلتا في المكاسرةِ بينهما إلى استخدام «السلاح الأبيض» بما يشي بعدم إمكان تَصَوُّر إيجاد «أرض مشتركة» قبل تَسَلُّم جو بايدن مقاليد الحُكْم، بما يتيح «النفاذ» بحكومةٍ في لبنان تستفيد من تراجُع حدة المواجهة في طريق العودة إلى تفاهُمٍ حول «النووي» سيكون من الصعب فصْله هذه المرة عن مسألة «الدور» الإيراني في عموم المنطقة.
ورغم اتجاه الأنظار في بيروت أمس إلى زيارة الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري لرئيس الجمهورية ميشال عون، في لقاءٍ هو الثاني في 48 ساعة حاملاً معه تشكيلةً حكومية طال انتظارها مكتملة بالأسماء والحقائب لاختصاصيين غير حزبيين وفق صيغة الـ 18 وزيراً بلا ثلث معطّل لعون وفريقه (التيار الوطني الحر)، لم تُبْدِ أوساط عدة تفاؤلاً بإنجاز هذا الملف قريباً، متوقفة عند «العوارض» الداخلية للتأزم الإقليمي الذي يحكم مسار التأليف الشاق.
وفي حين قال الحريري بعد لقائه عون «إن شاء الله الأجواء إيجابية والرئيس وعدني أنه سيدرس التشكيلة التي قدّمتها وسنعود ونلتقي والأمل كبير بتشكيل الحكومة لإعادة إعمار بيروت والثقة للبنانيين عبر تحقيق الإصلاحات»، شكّكت هذه الأوساط في بلوغ عملية التشكيل خواتيمها السعيدة في الأيام القليلة المقبلة، وخصوصاً في ظل صعوبة تَصَوُّر أن يقبل رئيس الجمهورية بـ «تشكيلة جاهزة» أقرب إلى الأمر الواقع لم يكن شريكاً بالوصول إليها ولا باختيار الوزراء المسيحيين فيها، هو الذي كان طالب سابقاً بوحدة المعايير في التأليف، بما اعتُبر إصراراً ضمنياً على الحصول مع فريقه على الثلث المعطّل.
ولن تتوقّف مصاعب استيلاد الحكومة في شقّها المحلي عند المشكلة بين الحريري وفريق عون، بل تتعدّاها إلى تَشاوُرٍ كان «حزب الله» جاهر بالمطالبة به معه كما مختلف الأفرقاء، ناهيك عما إذا كان الزعيم الدرزي وليد جنبلاط نال ما يُرْضي المكوّن الذي يمثّله.
وفي السياق الشائك عيْنه جاء خروجُ الجمر إلى فوق رماد العلاقة المحتقنة بين عون ورئيس البرلمان نبيه بري على خلفية ملفات الفساد وتحريك بعضها، بما اعتبره فريق بري كما جنبلاط، تصفية الحسابات ربْطاً بالعقوبات الأميركية على رئيس «التيار الحر» جبران باسيل وصولاً إلى اتهام قناة «ان بي ان» (التابعة لبري) رئيس الجمهورية بـ «ازدواجية الموقف» و«تمييع عملية التشكيل الحكومية لتحقيق مكاسب ضيقة».
وإذ ترى الأوساط أن الملف الحكومي صار أقربَ إلى «مكعب روبيك» بحيث يحتاج كل وجه منه إلى معالجةٍ منفرداً، ولكن من شأن الفشل في تدوير مربّعات أي وجهٍ وتوحيد لونه أن يطيحَ بمجمل التوليفة التي يُعمل عليها، تشير إلى أن هذا الأمر يفسّر ما يبدو أنه «لعبة انتظار» يعتمدها بعض الأطراف، وبينهم «حزب الله»، الذي يفضّل أن تبقى كرة التعقيد خارج ملعبه ويستفيد من هذا الوقت الضائع لتمرير المرحلة الانتقالية أميركياً بالمزيد من «انعدام الجاذبية» في الوضع اللبناني والذي وفّر الحزب لبيئته «حمايات» بإزائه بما يخفف عنها صدمة الارتطام الكبير (المالي - المعيشي) الذي تحاول حكومة تصريف الأعمال تأخيره عبر إجراءاتِ ترشيد دعم المواد الاستراتيجية والتي يحكمها تَرَدُّد وخشية مما قد يكون بمثابة سحب حلقة الأمان من «قنبلة» لا أحد يمكنه التكهن بتشظياتها في الشارع.
ولم يكن ممكناً القفز بحسب الأوساط نفسها فوق صبّ المجتمع الدولي جام ضغطه على الأطراف اللبنانية لاستعجال تشكيل الحكومة بمواصفات المبادرة الفرنسية، أي أن تتألّف من اختصاصيين غير حزبيين ولا يرتبطون بولاءات سياسية، وهي المبادرة التي صارت أوروبيةً، وفق ما عبّر عنه البيان الشديد اللهجة الذي صدر عن الاتحاد الأوروبي أول من أمس، وبدا بمثابة إحاطة شاملة بـ «العاصفة الكاملة» التي تضرب لبنان وغلبتْ عليه صيغة «يجب» و«ينبغي» و«لا بد» في مخاطبة المسؤولين اللبنانيين مع تأكيد «مرجعية» الشعب كمرتكز للدعم بعد «سماع صوته»، وذلك غداة اجتماع وزراء خارجية الاتحاد في بروكسيل والذي ناقش الأزمة اللبنانية في ضوء أفكار ألمانية لاقت مبادرة باريس، وأيضاً عشية قمة زعماء الاتحاد التي تعقد اليوم ويطغى عليها موضوع «مُعاقبة تركيا».
وبالأهمية نفسها جاء موقف السعودية على لسان وزير الإعلام ماجد القصبي، الذي نقل أن مجلس الوزراء تطرّق، أول من أمس، "إلى تأكيد المملكة خلال مشاركتها في مؤتمر باريس لدعم لبنان وشعبه (استضافته باريس في الثاني من ديسمبر الجاري)، على ضرورة تحقيق الإصلاح السياسي والاقتصادي الشامل في لبنان، والحد من التأثير الخارجي لأطراف إقليمية تسعى إلى نشر الدمار وعدم الاستقرار في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط".