هذه عبارة كثيراً ما نسمعها اليوم في وسائل الإعلام وليس هذا بالغريب، ولكن الغريب حقاً أنّها لا توجه إلا لمَن يقول الحق! وتُحجب عمّن يتجاوز ويفتري على الله مالم يُنَزِّل به سلطاناً، فنجدهم يخوضون في أحكام الشريعة ويفتون في كبار المسائل بلا دليل وإنّما دليلهم عقولهم القاصرة وأهواؤهم المضللة، وإرادتهم الفاسدة في الوقت الذي أباحوا فيه كثيراً من المنهيات، وأنكروا كثيراً من المشروعات، لأنها بزعمهم ليس وقتها الآن! وهنا يأتي سؤال نوجهه لهم وهو: متى وقتها إذاً؟ وبماذا أنتم منشغلون اليوم؟ في حقيقة الأمر وخلاصته ومؤداه أنّ علماء الشريعة لا يفقهون الواقع، وهم مختصون بأحكام العبادات ولا شأن ولا فهم لهم في السياسة، ولا الاقتصاد، ولا نظامنا الاجتماعي، وليس لنا أن نستفتيهم فيها، ولكنّهم لا يجرؤون على التصريح بذلك، وواقعهم يثبت ذلك ويؤكده.
كما أننا نقول لهم أيضاً، لو كانت عقول المستشارين والخبراء الدستوريين والقانونيين والسياسيين المجردة قادرة على إدراك المصالح والبعد عن المفاسد، فما حاجتنا إلى الرسل والرسالات السماوية! والعقول البشرية تتفاوت تفاوتاً عظيماً في تقدير المصلحة ووقتها وزمانها.
وفي الأمس القريب اعتبروا ثورات الربيع مصلحة.
فإذا هي مفسدة لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً في بلاد المسلمين، ولهذا من نِعم الله علينا جميعاً أنّه لم يتركنا وعقولنا، ويكلنا إلى أنفسنا الأمّارة بالسوء، وإنّما أرسل لنا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكمل لنا نعمته بهذا الدين القويم، الذي شمل الدنيا والآخرة، وأنعم علينا بنعمة القرآن: (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
كما اتفق الفقهاء على أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، بمعنى أنّه لابد أن يبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تقوم الحجة على الناس جميعاً، فإذا دعتِ الحاجة للبيان، وجب البلاغ وإيضاح الحق، ويتفرع عنها قاعدة عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقاعدة جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
وتخرج عمّا سبق حجية تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لما فُعل أو قيل بحضرته، ولهذا عَدّوا من أقسام السُّنة، (السُّنة التقريرية)، وهي باب واسع من أبواب الاستدلال بالسكوت أو ترك التفصيل والبيان، ورَتّب الإمام الشافعي على ذلك قاعدة مهمة من قواعد العموم ونَصّها: ترك الاستفصال في مقام الإجمال ينزل منزلة العموم في المقال.
والمعنى من ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا سُئل عن مسألة تحتمل أكثر من وجه، فأفتى فيها من غير استفصال من السائل، دلّ ذلك على أنّ حكم جميع الأوجه واحد، وأمثاله قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يُصَلينَ أحدكم العصر إلا في بني قريضة)، فاختلف الصحابة رضي الله عنهم في الصلاة هل يصلونها لوقتها أو في الطريق، أو لا يصلونها إلا بعد الوصول إلى بني قريضة حتى لو خرج وقتها؟ وبالفعل حصل هذا الذي نُقل إلينا ، فأقرّ الرسول صلى الله عليه وسلم الجميع على اجتهادهم في التطبيق، وعدم معارضتهم لفحوى الخطاب.
ومن المُتفق عليه أنّ الله تعالى لا يُشرع حُكماً إلا لمصلحة أو دفع مفسدة عن الناس، وهذه الغاية في الشريعة الإسلامية وهي المصلحة العامة، وعليه لا يجوز أن ينفع الإنسان نفسه ويضرّ غيره لقاعدة (لا ضَرر ولا ضِرار)، فالمصلحة الخاصة لا تُقدّم على المصلحة العامة.
الخلاصة الإسلام السياسي أثبت أنّه لا يقف عند النصوص، ولا يرعوي لحرمة المخالفين له من العلماء الكبار.