من المفارقات أن يرحل وليد المعلّم، وزير الخارجية السوري منذ العام 2006، يوم السادس عشر من نوفمبر 2020.
رحل المعلّم في يوم ذكرى مرور خمسين عاماً بالتمام والكمال على «الحركة التصحيحية». كان ذلك يوم ولادة النظام السوري الحالي نتيجة انقلاب نفّذه حافظ الأسد على رفاقه، أبرزهم الضابط العلوي الآخر صلاح جديد.
هل رحيل المعلّم في ذلك اليوم بالذات صدفة أم أنّ رحيله إشارة أخرى إلى نهاية، ذات فصول طويلة، لنظام عمّر أكثر بكثير مما يجب.
نظام أدّى في نهاية المطاف، أو في طريقه إلى تأدية، المطلوب منه منذ ما قبل ولادته، أي منذ كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع. كان مطلوباً من النظام، كي يبقى، تفتيت سورية إلى غير رجعة مستخدماً كلّ الأساليب المتاحة بدءاً بالاستعانة بالإيراني وانتهاء بالاستعانة بالروسي، مروراً في طبيعة الحال بكلّ وسائل القمع التي يمكن تصورّها.
من البراميل المتفجرّة إلى الاغتيالات... إلى السلاح الكيميائي والتهجير الجماعي لمواطنين سوريين سنّة على وجه التحديد.
لم تكن للمعلّم، السنّي شبه الدمشقي (هو من المزّة التي ضمت إلى دمشق بعد توسعها في سبعينات القرن الماضي)، أي أهمية تذكر في صنع القرار.
لا في عهد حافظ الأسد ولا في عهد وريثه بشّار الأسد.
كان واجهة مقبولة عربياً ودولياً لنظام أقلّوي، لا أكثر.
أراد النظام في كلّ يوم نفي أنّه نظام عائلي وعلوي في الوقت ذاته. استُخدم المعلّم مثله مثل غيره من السنّة وغير السنّة، كأداة زينة، في تلميع صورة النظام.
تكمن ميزة المعلّم بأنّه كان من بين القلائل من سنّة المدن الذين تبوّأوا موقعاً بارزاً.
فالمطلوب كان دائماً أن يكون السنّي من سنّة الضواحي أو الريف أو المدن التي بقيت ريفية مثل درعا.
تلك كانت القاعدة المعمول بها منذ استولى حافظ الأسد على سورية وألقى بصلاح جديد ونورالدين الاتاسي ويوسف زعيّن وآخرين في السجن. لا مكان في نظام حافظ الأسد لسنّة المدن في السلطة.
كان لديه حقد ليس بعده حقد على البورجوازية السنّية.
حقد على حلب وحمص وحماة ودمشق تحديدا. أمّا اللاذقية، فتم تدجينها باكراً بعدما اجتاحها العلويون الذين هبطوا على وسطها من جبالهم القريبة منها... مثلما هبطوا على ضواحي دمشق وحمص وحماة وتسللوا بحذر إلى حلب.
كان حكمت الشهابي رئيس الأركان الذي لعب دوراً مهمّاً، أقلّه ظاهراً، في عهد حافظ الأسد من ريف حلب ووزير الدفاع مصطفى طلاس من الرستن في ريف حمص.
أمّا عبدالحليم خدام، فكان من بانياس. عرف المعلّم حدوده باكراً، خصوصاً منذ عمل سفيراً في واشنطن بين 1990 و1999 عندما استدعي إلى دمشق بسبب وشاية، عن تقرّبه من الأميركيين، مصدرها أحد السفراء العرب في العاصمة الأميركية.
في الواقع، وضعه حافظ الأسد في منافسة مع فاروق الشرع وزير الخارجية، خرج منها المعلّم خاسراً بمجرّد إعادته إلى دمشق وذلك رغم تعيينه نائباً لوزير الخارجية ثم وزيراً للخارجية في العام 2006.
منذ إعادته إلى دمشق، لعب المعلّم الدور الذي كان عليه لعبه. زايد عندما كان عليه المزايدة وذلك لإظهار ولائه واخفاء مشاعره الحقيقية، وهي مشاعر كلّ سنّي سوري تجاه النظام.
كان عليه أن يكون فظّاً مع رفيق الحريري عندما جاء إليه في بيروت، قبل أسابيع قليلة من اغتيال الأخير، كي يشدّد على ضرورة إبقاء «الودائع السورية»، أي النواب اللبنانيين العاملين لدى الأجهزة السورية على لوائحه.
استوعب المعلّم باكراً معنى أن تكون سنّياً في خدمة نظام بشّار الأسد وقبله حافظ الأسد. كان يعرف أن على السنّي التفاوض مع إسرائيل، في حين أن على العلوي البقاء خارج هذه الدائرة. لذلك اقتصرت المفاوضات العلنية مع الإسرائيليين على أشخاص مثل المعلّم نفسه ثم الشهابي، الذي التقى رئيس الأركان الإسرائيلي امنون شاحاك في واشنطن، ثم الشرع الذي التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك وأخذ صورة معه.
بالنسبة إلى النظام، وحدهم السنّة يخونون... في حين يعطي الرئيس العلوي شهادات في «الوطنية» و«الممانعة» و«المقاومة». يعمل في الوقت ذاته على تغيير طبيعة المدينة السورية تمهيداً لتغيير طبيعة سورية كلّها.
في السنة 2020، صارت سورية تحت خمسة احتلالات، الإيراني، الإسرائيلي، الروسي، التركي، الأميركي. على الرغم من ذلك كلّه، لا يزال بشّار الأسد في دمشق.
من يعيد سورية إلى السوريين يوماً؟ الأكيد أنّ المعلّم لم يلعب دوراً في هذا السياق.
لعب دوراً وحيداً يتمثّل في المحافظة على موقعه، علما أنّه كان يعرف تماماً ماذا يريد الإيراني وماذا يريد الروسي وماذا يريد التركي. لعب عملياً كلّ الأدوار التي رسمت له.
شمل ذلك قول كلام لا يؤمن بحرف من حروفه من نوع «سننسى أنّ أوروبا على الخارطة» أو «مين بومبيو؟... أنا لا أعرفه» أو «من يريد العدوان على سورية، عليه التنسيق معها».
لم يكن المعلّم سوى أداة من أدوات النظام الذي قام في العام 1970، وهو نظام قبل الدفاع عنه، علما أنّه كان يعرف تماماً طبيعته. كان يعرف أن ثمّة فارقاً بين الأقوى والأعلى.
الأعلى رتبة في أي موقع من مواقع السلطة لم يكن هو الأقوى. الأقوى، أي صاحب النفوذ، كان دائماً العلوي الذي يظلّ العمود الفقري للنظام الذي هو قبل أيّ شيء آخر نظام عائلي.
كان لا بدّ من وفاة محمد مخلوف (والد رامي مخلوف) كي يكتشف السوريون من خلال النعي أن المتوفّى ابن خالة حافظ الأسد وأنّ كل الروايات التي نسجت عن دوره في تسهيل زواج مؤسس النظام من أنيسة مخلوف، ليست صحيحة. كل ما في الأمر أن أنيسة مخلوف لم تكن سوى ابنة خالة حافظ الأسد! روايات كثيرة ستكشف يوماً عن حقيقة النظام. سيكشف يوماً سرّ سقوط الجولان في 1967، عندما كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع، والعلاقة بين ذلك و«الحركة التصحيحية» في 16 نوفمبر 1970...