رحلة اللاعودة السورية

تصغير
تكبير

إنها ليست قصة نصف قرن من عمر سورية، بمقدار ما هي قصّة التدمير الممنهج لبلد كان مفترضاً ان يكون بين الأكثر حيوية في المنطقة بفضل ما يمتلكه من ثروات، في مقدّمتها ثروة الانسان. إنّها قصة فقدان الأمل باستعادة سورية، التي استقلّت في العام 1946، في يوم من الأيّام.

قبل خمسين عاما، في السادس عشر من نوفمبر 1970 تحديدا، بدأت رحلة اللاعودة في سورية. رحلة لاعودة لسورية الى بلد طبيعي. في ذلك اليوم، بات مصير سورية مرتبطاً بمصير عائلة لا يهمّها ما يحل بالبلد بمقدار ما يهمّها ديمومة نظام غير قابل للحياة.

ما حاول حافظ الاسد إخفاءه طويلا، تكشّف بعد موت محمد مخلوف قبل أشهر قليلة. تبيّن أن محمّد مخلوف، والد رامي مخلوف، ليس سوى ابن خالة حافظ الأسد وأنّ كلّ ما قيل عن الظروف التي أحاطت بزواج الأخير من أنيسة مخلوف لم يكن صحيحاً.

لم يكن صحيحاً انّ آل مخلوف متفوقون اجتماعيا على آل الأسد وان محمد مخلوف لعب دورا في تمكين حافظ الأسد من الزواج من امرأة من آل مخلوف. كلّ ما في الامر ان حافظ الأسد تزوّج من ابنة خالته وان شقيق زوجته، وهو ابن خالته، لعب الدور الأساسي في جمع ثروة هائلة كانت تستخدم، في جزء منها، في استيعاب أبناء الطائفة العلوية، خصوصا كبار الضباط في الجيش والامن...

قبل نصف قرن، استولى حافظ الأسد، الضابط العلوي البعثي، الذي شغل موقع رئيس الدفاع وقبل ذلك قائد سلاح الجو، على السلطة. لم يجعل من نفسه رئيسا للجمهورية على الفور. كان يعرف مدى حساسية الشعب السوري، بأكثريته السنّية، لتولي علوي موقع رئيس الدولة. امضى الشهور الأولى من عهده الطويل، الذي استمرّ ثلاثين عاما في جولات في المناطق السورية المختلفة وفي الصلاة في المساجد السنّية. عيّن رئيسا موقتا هو أحمد الخطيب (أستاذ مدرسة سنّي من درعا) وأزاحه في فبراير 1971 بعدما تأكد ان سورية صارت مهيّأة لتولي علوي موقع رئيس الجمهورية.

لا يمكن تجاهل دهاء حافظ الأسد الذي لم تكن تهمّه سوى السلطة والبقاء في السلطة الى الابد. لعلّ أهمّ ورقة لعبها هي ورقة الجولان الذي سقط في يد إسرائيل عندما كان وزيرا للدفاع في العام 1967.

لا يزال الجولان الى اليوم ضمانة بقاء النظام السوري في دمشق. الاهمّ من ذلك كلّه، انّ الأسد الأب عرف كيف يتاجر بالجولان في كلّ وقت، بدل العمل من أجل استعادته. ركّز عمليا على كيف يحولّه الى ورقة في مصلحته، خصوصا بعد حرب العام 1973 التي خسرتها سورية، لكنّها اضفت شرعية عربيّة ودولية على النظام الذي لم يستطع، في المقابل، في ايّ وقت اقناع السوريين، بأكثريتهم الساحقة بهذه الشرعية.

بين 1970 و2020، مرّت سورية بظروف مختلفة وصولا الى ما وصلت اليه، أي الى بلد يرفض النظام فيه الاعتراف بانّه انتهى وانّ سورية تفتّتت وصارت تحت خمسة احتلالات: الاحتلال الإيراني، الإسرائيلي، التركي، الروسي، الأميركي. المهمّ بالنسبة الى النظام أنّ بشّار الأسد ما زال في دمشق ويبدو مستعدّا للبقاء فيها الى آخر سوري في سورية والى آخر حجر قائم في أيّ مدينة سورية.

عاش النظام السوري في كلّ وقت على الابتزاز. ابتز العرب في كلّ وقت. ابتزّ الأوروبيين والأميركيين بين حين وآخر. كانت لعبته في لبنان مكشوفة منذ اللحظة الأولى. استثمر في حرب بين المقاتلين الفلسطينيين الذين كان يسلّحهم والميليشيات المسيحية في لبنان التي لم يكن بعيدا عن دعمها في العام 1975 وفي السنوات اللاحقة. حصل نتيجة هذا الاستثمار على ضوء اخضر إسرائيلي - أميركي سمح له بوضع اليد على لبنان تحت لافتة «قوات الردع العربيّة» في البداية.

تمثّل الإنجاز الاهمّ لحافظ الأسد، قبل توريث نجله بشّار في السنة 2000، في تطويع السوريين وتحويلهم الى شعب بائس من دون كرامة بفضل الأجهزة الأمنية التي انشأها وصارت الآمر الناهي في بلد لا قضاء مستقلّا فيه.

امتلكت هذه الأجهزة صلاحية ادخال أيّ شخص الى السجن وإخفاءه. وهذا انسحب على اللبنانيين في لبنان أيضا. لكنّ الاهمّ من ذلك كلّه كان القضاء على المدينة السورية بتركيبتها التقليدية وتنوّعها وجعلها أسيرة الضباط او رجال الاعمال العلويين الآتين من الريف الذي ارتبطوا بطريقة أو بأخرى بالعائلة.

غيّر النظام طبيعة المدن السورية. كان لدى حافظ الأسد حقد ليس بعده حقد على البورجوازية السورية التي صنعت الاقتصاد السوري. استكمل الكارثة التي بدأت في عهد الوحدة المصرية - السورية بين 1958 و1961. صنع اقتصادا جديدا في أساسه العائلة (عائلته) وفي محيطه طبقة الأغنياء الجدد من العلويين الذين قادوا حلف الأقلّيات. لم يعن ذلك استبعادا للسنّة. على العكس من ذلك، كان مرحّبا بهم كشركاء ثانويين للعلوي في أيّ مشروع تجاري أو صناعي أو زراعي...

كان انفجار الوضع السوري طبيعياً في العام 2011، خصوصا بعد اقدام بشّار الأسد على خياره الإيراني. كان والده يلعب ايران ضدّ العرب... والعرب ضدّ ايران. استفاد الأسد الاب الى ابعد حدود من لعبته المفضلّة التي ما لبثت ان ارتدّت على سورية.

هذا ما بدا جليّا من خلال انحياز سورية الى ايران خلال الحرب العراقية - الإيرانية بين 1980 و 1988. ذهب بشّار لاحقا الى الخيار الإيراني، الذي اسّس له عمليا والده الذي اعتقد انّ في استطاعته استخدامه بدوره لمصلحة النظام. انتهى الامر بتحوّل سورية جرما يدور في الفلك الإيراني. وضعت ايران نفسها في موقع القائد لحلف الاقلّيات، خصوصا بعدما ورثت الوصاية السورية على لبنان.

بعد نصف قرن على قيام النظام السوري، ليس ما انهار سورية وحدها. ما انهار عمليا هو حلف الاقلّيات، على الطريقة السورية، الذي اعتقد بشّار الأسد، بعد والده، انّ في استطاعته ان يكون على رأسه مع بعض الزخرفات السنّية التي أتت بها زوجته أسماء (سنّية من حمص).

سيبقى النظام في دمشق ما دامت سورية لم تتفتت كلّيا. يكمن النجاح الوحيد لحافظ الأسد ولخليفته في القدرة العجيبة على جعل مصير سورية رهين مصير العائلة... وشعار «الاسد او نحرق البلد». كان العنوان خيارا موفقا لكتاب الأميركي اللبناني الأصل سام داغر، وهو افضل كتاب عن سورية في السنوات العشر الأخيرة!

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي