صحة لبنان تنهار تحت وطأة «كورونا» وجسمه الطبي يُهاجِر
«مستشفى الشرق».. مريضٌ
لبنان الذي كان يوماً "مستشفى الشرق" ومنارتَه الصحية المضيئة يقف اليوم على شفير الهاوية.. نظامه الصحي يئن تحت أكوام من المصائب تُنْذِر بالانهيار الوشيك وإخراجه "من الخدمة".
فبين عدّاد "كورونا" الذي يسجّل ارتفاعاً صاروخياً تجاوَزَ 2000 في اليوم وعدم قدرة المستشفيات الحكومية على استيعاب الأعداد المتزايدة وتَرَدُّد المستشفيات الخاصة في اتخاذ القرار بفتْح أقسام لمرضى "كوفيد -19"، وبين الأزمة المالية والنقدية القاتلة التي يعيشها لبنان ويرزح تحتَها النظام الاستشفائي والطبي والتمريضي، يخشى اللبنانيون أن يكون الوصول الى "جهنّم" بات في حُكْمِ المنجَز بعدما عبّد لهم مسؤولوهم الطريقَ وتركوهم ينزلقون بسرعة مخيفة متخبّطين بمصائبهم.
يعيش اللبنانيون اليوم قلقاً لم يعرفوه حتى في أقسى أيام الحرب الأهلية ونارها وبارودها. حينها كان الاحتماءُ مُمْكِناً وطريقُ الهروبِ مفتوح على فرصة للنجاة، أما اليوم فالطرق كلها مسدودة أمامهم، والخطَر الصحي يتربّص بهم للانقضاض على ما تبقّى لهم من أمل بالغد.
الواقعُ الصحي مُخيفٌ لكن صرخة الأطباء والممرضين والصيادلة كما صرخة وزارة الصحة ولجنة الصحة البرلمانية دوّت بلا صدى مسموع، فالظروف أصعب من أن يعالجها جرس إنذار أو ناقوس خطَر والكيل قد فاض مُنْذِراً بإغراق الجميع.
وقبيل اتخاذ السلطات اللبنانية قراراً بالعودة إلى الإقفال التام ابتداءً من السبت المقبل وحتى نهاية نوفمبر بهدف إعطاء فرصة للقطاع الصحي لالتقاط أنفاسه استعداداً للموجة الثانية من "كورونا"، رَسَمَ النائب فادي علامة، عضو لجنة الصحة والعمل والشؤون الاجتماعية البرلمانية ونائب رئيس نقابة المستشفيات في لبنان ورئيس اتحاد المستشفيات العربية عبر "الراي" صورةً قاتمة للواقع الصحي معلناً "وصلْنا إلى أسفل الدرك بعدما كنا الأوائل، والوضع أكثر من مُقْلِقٍ، ومَن يظن أنها مجرد صرخات تهويلية فهو مخطئ. الوضع الصحي برمّته في مرحلة الخَطَر على مستويات عدة، من واقع المستشفيات الى أسرّة كورونا والخشية من الموجة الثانية".
ويشرح "أن للمستشفيات في ذمة الدولة مستحقات قديمة متراكمة منذ العام 2012 لم تُدفع حتى اليوم، وحتى لو دُفعت فإنها قد فقدت 80 بالمئة من قيمتها ولم تعد المستشفيات قادرة على الاستفادة منها كما يجب. كذلك ثمة تَخَبُّطٌ في تعاميم مصرف لبنان فيما يختص باستيراد المستلزمات الطبية. ففي حين يقضي التعميم الأول بدعم 85 بالمئة منها وترْك 15 بالمئة منها لسعر السوق (السوداء)، عاد تعميم آخَر ليقضي بضرورة إيداع المبلغ المطلوب تحويله إلى العملة الأجنبية بالسعر الرسمي (1515 ليرة للدولار) بالليرة اللبنانية نقْداً من قبل كل مستورد (وليس بموجب شيكات مصرفية أو حوالات) حتى يتمكّن من طلب المستلزمات الطبية والأدوية من الخارج. من هنا باتت المستشفيات غير قادرة على تأمين المعدات الضرورية لإجراء بعض الجaراحات ولا سيما جراحات العظم، كما لم تعد قادرة على تأمين أجهزة الوقاية والتنفس لمرضى "كورونا" في ظل تَكاثُر الأعداد . وقد أثّر التخبط المالي للمستشفيات على نوعية العنايات الطبية المقدَّمة وهو أمر مرشَّح للتفاقم، وعلى قدرة المستشفيات على مواكبة التقدم العلمي والأبحاث، وهما أمران أساسيان في كل مستشفى لتحسين نوعية خدماتها الطبية، كما دفع ببعضها الى إغلاق عدد من الأقسام والاستغناء عن طواقمها التمريضية".
المستوى الثاني من المشكلة في رأي علامة هو بلا شك "تخبط الدولة في مواجهة جائحة كورونا. فالحكومة المستقيلة التي فشلت في احتواء "كوفيد - 19" والحدّ من زحْفه بقراراتها غير المدروسة، ركّزتْ فقط على تقوية مستشفيات القطاع العام لتكون خط المواجهة الأول أمام الجائحة وعقدت اتفاقية بين لبنان والبنك الدولي تقضي بتخصيص 80 مليون دولار للقطاع الصحي بينها 40 مليون لتأهيل المستشفيات الحكومية يُستعمل 20 مليون منها لمواجهة كورونا. ولكن للأسف عدد قليل من هذه المستشفيات الحكومية تم تجهيزه، أما العدد الأكبر فلم يتجهّز نظراً الى عدم وجود قدرات تقنية فيه أو طواقم طبية وتمريضية متخصصة، ليقتصر عدد المستشفيات على أربع. وفي تركيزها على القطاع العام، لم تقدّم الحكومة أي مساعدات للقطاع الخاص رغم كونه يؤمن 80 بالمئة من الخدمات الاستشفائية ولم تدعمه ليتمكن من مواجهة جائحة كورونا بكل طاقته، فكان عدد المستشفيات الخاصة المجهزة لاستقبال مرضى كورونا محدوداً".
اليوم تدارك المسؤولون الأمر، يقول علامة "وطلبوا من المستشفيات الخاصة تجهيز منشآتهم لاستقبال مرضى كورونا لكن الأوان ربما يكون فات، فالتجهيز ليس بالأمر السهل ويتطلّب جهداً وأموالاً وهنْدسة جديدة لإنشاء بنى تحتية للعزل ومداخل خاصة وأنظمة تهوئة وغيرها إضافة الى المعدات وآلات التنفس وإعداد الفرق التمريضية، في حين كان من الممكن منذ ستة اشهر تخصيص مبالغ من القرض السابق لهذه المستشفيات أو التوجه الى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أو أي جهات مانحة لطلب المساعدات للقطاع الصحي في هذا الظرف الحرج جداً".
منافسة حادة بين التجربة اللبنانية والإيطالية
من هنا بات الواقع مرعباً فلا أسرّة كافية في المستشفيات لمرضى "كورونا" ومن يُصَب يجد صعوبة بالغة في تأمين سرير له في مستشفى بحيث بات محتملاً جداً ان تكون التجربة اللبنانية أسوأ من التجربة الإيطالية في ظل تَزايُد أعداد المصابين وعدم اتخاذ اجراءات الوقاية اللازمة من المعنيين وخصوصاً على مشارف الموجة الثانية التي بدأت تطل ببراثنها مع بدء موسم الإنفلونزا الشتوية.
وكأن كل ما ذكره علامة لا يكفي، ليأتي المستوى الثالث من المشكلة الذي يتجسد بهجرة الأطباء والطواقم التمريضية، الأمر الذي يشي بزعزعةِ الأسس التي قامت عليها شهرةُ القطاع الصحي في لبنان. فالأطباء يصرخون ويئنّون ولا مَن يسمع صوتَهم. فمن جهةٍ يدعوهم نقيب الأطباء للانخراط الأوسع في المعركة الشرسة ضد "كورونا" ويطالب بتجهيز المستشفيات لأن الجميع معرّضون على مشارف الأنفلونزا، ومن جهة أخرى يجدون أنفسهم بحسب قول أحدهم انحدروا مادياً ومعيشياً بحيث لم يعودوا قادرين على تأمين تثقيفهم الطبي المتواصل الذى يتطلّب سفراً ومؤتمرات وكتباً ومَراجع. وكذلك باتوا يجدون صعوبة في تأمين احتياجات عائلاتهم في ظل احتجاز أموالهم من المصارف، وتالياً صارت الهجرة الحلّ الوحيد أمام الكثيرين منهم، وهي هجرة لها انعكاسات قاسية تكاد تكون مميتة على المجتمع اللبناني الذي لن يعود قادراً لا في مستشفياته ولا عبر أطبائه على الحصول على عناية صحية كان يتباهى بها سابقاً وله بها ثقة عمياء.
معاناة المستشفيات والأطباء تواكبها معاناة الجسم التمريضي، فماذا تقول د. ميرنا ضومط نقيبة الممرضات والممرضين الذين يشكلون خط الدفاع الأول في وجه جائحة "كورونا" الجامحة التي يعيشها لبنان، والذين يتحملون العبء الأكبر جراء انهيار الوضع الصحي والاقتصادي في "بلاد الأرز"؟
تؤكد ضومط لـ "الراي" أن وضع التمريض سيء منذ ما قبل الجائحة "إذ ان الممرضات تعرّضن أكثر من مرة لحملات طرْد تعسفية من المستشفيات التي امتنع بعضها عن إعطائهم رواتبهن المستحقة أو قام بحسومات على الراتب، كذلك بات على كل ممرضة أن تتحمل مسؤولية عدد أكبر من المرضى يفوق ما هو مسموح به. وجاءت جائحة كوفيد-19 لتزيد طين وضعهنّ بلة حيث تضاعف الضغط الجسدي والنفسي وحتى الاقتصادي عليهن. وباتت الممرضات في الأقسام الخاصة بـ "كورونا" يتحملن وحدهن مسؤولية مرضى الفيروس ودعمهم النفسي وتقديم كل تفاصيل العناية لهم بعدمكانت عائلة المريض عادة تتدخل و تساعد و تقوم بجزء كبير من الدعم المعنوي. وفي غمرة هذا الدور الصعب تجد الممرضات أنفسهن أحياناً غير قادرات على الوصول الى عملهن نظراً لافتقادهنّ الى أجرة النقليات، فيما هنّ يعانين عدم توافر بديل عنهن إذا مرضن ومن تنمّرٍ من عائلاتهن ومعارفهن كونهن مصدراً لانتقال عدوى "كورونا".
وقد تفسر الأرقام ما تتعرّض له الممرضات من ضغوط، فالمستشفيات تستقبل يومياً عدا مرضى "كورونا" الذين تتزايد أعدادهم بشكل مخيف، ما بين 6 الى 7 آلاف مريض يومياً يحتاجون الى عناياتٍ تمريضية متنوعة ما يضع على أكتاف الممرضات والممرضين أحمالاً ثقيلة فيما هم يعانونمن عدم نيلهم لحقوقهم المادية وعدم تأمين وسائل الحماية الكافية لهم للعمل ضمن أجواء محفوفة بالمخاطر "فحتى الأقنعة يصعب وجودها أحياناً".
وتشير ضومط إلى "أن هذا الواقع الصعب أدى للأسف إلى موجة هجرة واسعة بين الممرّضات ولا سيما من حملة الشهادات ومَن يملكن الخبرة، الأمر الذي يدق ناقوس الخطر حول نوعية التمريض، فالخبرة في المجال التمريضي حجرُ أساسٍ وهي تتراكم عبر السنين. وغياب أصحاب الخبرة يعرّض العنايات الصحية في المستشفيات الى مخاطر كثيرة. لكن في المقابل ثمة ما يدعو الى التفاؤل إذ يتخرّج كل عام من الجامعات والمعاهد اللبنانية نحو 1200 ممرّضة وممرّض ينتظرون فرصة للدخول الى مجال العمل ويمكن الاستعانة بهم لتوفير الحاجة لأعداد متزايدة من مقدمي العنايات الصحية".
"دواء أسود" يهدّد اللبنانيين
خارج المستشفيات يشكل انقطاع الدواء هاجساً مُرْعِباً لدى اللبنانيين بدأت مفاعيله تظهر بوضوح بعد اختفاء عدد كبير من الأدوية من الصيدليات ولا سيما المختصة بالأمراض المُزْمِنة مثل القلب والضغط و السكري وحتى أدوية السرطان. وهذا الواقع دَفَعَ الناس إلى التهافت على الصيدليات بشكل غير مسبوق، وكثر لم يجدوا دواءهم المعهود فاضطروا الى استبداله بنظائر له ما زالت متوافرة في المستودعات، فيما عَمَدَ آخَرون إلى تخزينِ أكثر من علبة من أدويتهم ليؤمّنوا عدم انقطاعها عنهم.
وبدأت هذه "البلبلة" حين أَنْذَرَ مصرف لبنان كل المعنيين بأنه سيرفع الدعم عن الأدوية، ما حدا ببعض المستوردين وأصحاب المستودعات إلى عدم توزيع الأدوية المخزّنة عندهم على الصيدليات في انتظار تحديد أسعار جديدة لها، الأمر الذي تَسَبَّبَ باختفاء الأدوية من الصيدليات. ومن جهة أخرى سبّب تَعَثُّرُ الحصول على الدولار أزمة كبرى لدى المستوردين الذين ما عادوا قادرين على الاستيراد والدفْع بالعملة الصعبة رغم دعم مصرف لبنان للأدوية بنسبة 85 بالمئة على سعر صرف 1515 ليرة لكل دولار.
وحتى اليوم لا يزال سعر الأدوية على حاله، لكن متى رُفع الدعم كما تشي كل المؤشرات وربما تباعاً ابتداء من نهاية السنة، فإن المشكلة ستكون بحجم كارثة تطال ليس فقط المريض اللبناني بل كل القطاع الصحي ولا سيما الجهات الضامنة. فرفْع الدعم يعني التحول نحو السوق السوداء لتوفير الدولار للاستيراد مع ما يعنيه ذلك من ارتفاعٍ جنوني في سعر الدواء يعادل خمس مرات سعره الحالي، الأمر الذي يُنْذِر بغرق لبنان في كارثة حقيقية تهدّد أمنَه الصحي والاجتماعي.
وبالأرقام فإن 35 بالمئة من اللبنانيين غير خاضعين لأي جهة ضامنة، ونصف هؤلاء باتوا تحت خط الفقر، فكيف بإمكانهم تحمل الزيادة المتوقّعة في أسعار الدواء؟ اما الجهات الضامنة التي تغطي 65 بالمئة من اللبنانيين وتتحمل تكاليف 80 بالمئة من سعر الدواء فميزانياتها كلها بالليرة اللبنانية ولا يمكنها تحمل أي زيادة في أسعار الدواء تجعل مصاريفها أكبر من ميزانيتها وتُعَرِّضُها للإفلاس أو تضطرها لتغطية أقل من 20 بالمئة من سعر الدواء. والخوف كل خوف أن يحلّ الدواء المزوّر مكان الأصلي ويملأ الفراغ تاركاً اللبنانيين في براثن أزمة مميتة.
تقنين الدواء حل موقت
نقيب الصيادلة في لبنان غسان الأمين يرفع الصوت عالياً ويحذّر من الأسوأ ومن انهيار القطاع الصيدلي بأكمله إذا تم رفع الدعم من دون التشاور مع نقابة الصيادلة والقطاعات الضامنة والمستشفيات لوضع خطة عملية لمواجهة هذه الكارثة. وفي رأيه أنه بين دعم مطلق بمليار دولار أو رفع الدعم بالكامل يمكن إيجاد حل وسط من خلال إيجاد صندوق خاص لدعم الدواء يتيح استمرار الدعم لمدة 9 أشهر بدل الأشهر القليلة المتبقية ويؤمّن استمرارية تأمين الدواء للناس وبنوعية جيدة وسعر مقبول.
كذلك لا بد من تغيير الاستراتيجية الدوائية بأكملها عبر تأمين أدوية مضمونة وآمِنة إنما بأسعار أرخص مثل أدوية الجينيريك التي يمكن أن تحل محل الأدوية المعروفة أو تشجيع المصانع الوطنية على إنتاج الأدوية تحت مراقبة الدولة. المهم عدم ترك الأمور على حالها حتى نهاية السنة بعد أن تكون الفاس قد وقعت بالرأس وحلّت الكارثة.
ولكن حتى الآن لا تزال الحلول للأدوية غير واضحة في ظل حديثٍ عن استمرار الدعم للأدوية الأساسية للأمراض المزمنة والسرطانية ورفْعه عن كل ما عدا ذلك، مع تحديد سقفٍ للدولار الدوائي. وما زال الناس يعانون من تقنين شديد في عدد علب الأدوية التي يمكنهم الحصول عليها شهرياً حتى كاد الأمر يتحوّل في بعض الأحيان الى سوق سوداء رغم سعي الجهات المختصة الى مكافحة الأمر وتقنين عملية توزيع الأدوية على الصيدليات وعملية بيعها من الأخيرة.
وكأن سنين ضوئية قد عبرت في تاريخِ بلدٍ كان "مستشفى الشرق" فإذا بمواطنيه يتخبّطون في إيجاد سريرٍ لمرضاهم في المستشفيات، وأطباؤه وجسمه التمريضي يبحثون عن أرضِ أحلامٍ جديدة لهم.
فبين عدّاد "كورونا" الذي يسجّل ارتفاعاً صاروخياً تجاوَزَ 2000 في اليوم وعدم قدرة المستشفيات الحكومية على استيعاب الأعداد المتزايدة وتَرَدُّد المستشفيات الخاصة في اتخاذ القرار بفتْح أقسام لمرضى "كوفيد -19"، وبين الأزمة المالية والنقدية القاتلة التي يعيشها لبنان ويرزح تحتَها النظام الاستشفائي والطبي والتمريضي، يخشى اللبنانيون أن يكون الوصول الى "جهنّم" بات في حُكْمِ المنجَز بعدما عبّد لهم مسؤولوهم الطريقَ وتركوهم ينزلقون بسرعة مخيفة متخبّطين بمصائبهم.
يعيش اللبنانيون اليوم قلقاً لم يعرفوه حتى في أقسى أيام الحرب الأهلية ونارها وبارودها. حينها كان الاحتماءُ مُمْكِناً وطريقُ الهروبِ مفتوح على فرصة للنجاة، أما اليوم فالطرق كلها مسدودة أمامهم، والخطَر الصحي يتربّص بهم للانقضاض على ما تبقّى لهم من أمل بالغد.
الواقعُ الصحي مُخيفٌ لكن صرخة الأطباء والممرضين والصيادلة كما صرخة وزارة الصحة ولجنة الصحة البرلمانية دوّت بلا صدى مسموع، فالظروف أصعب من أن يعالجها جرس إنذار أو ناقوس خطَر والكيل قد فاض مُنْذِراً بإغراق الجميع.
وقبيل اتخاذ السلطات اللبنانية قراراً بالعودة إلى الإقفال التام ابتداءً من السبت المقبل وحتى نهاية نوفمبر بهدف إعطاء فرصة للقطاع الصحي لالتقاط أنفاسه استعداداً للموجة الثانية من "كورونا"، رَسَمَ النائب فادي علامة، عضو لجنة الصحة والعمل والشؤون الاجتماعية البرلمانية ونائب رئيس نقابة المستشفيات في لبنان ورئيس اتحاد المستشفيات العربية عبر "الراي" صورةً قاتمة للواقع الصحي معلناً "وصلْنا إلى أسفل الدرك بعدما كنا الأوائل، والوضع أكثر من مُقْلِقٍ، ومَن يظن أنها مجرد صرخات تهويلية فهو مخطئ. الوضع الصحي برمّته في مرحلة الخَطَر على مستويات عدة، من واقع المستشفيات الى أسرّة كورونا والخشية من الموجة الثانية".
ويشرح "أن للمستشفيات في ذمة الدولة مستحقات قديمة متراكمة منذ العام 2012 لم تُدفع حتى اليوم، وحتى لو دُفعت فإنها قد فقدت 80 بالمئة من قيمتها ولم تعد المستشفيات قادرة على الاستفادة منها كما يجب. كذلك ثمة تَخَبُّطٌ في تعاميم مصرف لبنان فيما يختص باستيراد المستلزمات الطبية. ففي حين يقضي التعميم الأول بدعم 85 بالمئة منها وترْك 15 بالمئة منها لسعر السوق (السوداء)، عاد تعميم آخَر ليقضي بضرورة إيداع المبلغ المطلوب تحويله إلى العملة الأجنبية بالسعر الرسمي (1515 ليرة للدولار) بالليرة اللبنانية نقْداً من قبل كل مستورد (وليس بموجب شيكات مصرفية أو حوالات) حتى يتمكّن من طلب المستلزمات الطبية والأدوية من الخارج. من هنا باتت المستشفيات غير قادرة على تأمين المعدات الضرورية لإجراء بعض الجaراحات ولا سيما جراحات العظم، كما لم تعد قادرة على تأمين أجهزة الوقاية والتنفس لمرضى "كورونا" في ظل تَكاثُر الأعداد . وقد أثّر التخبط المالي للمستشفيات على نوعية العنايات الطبية المقدَّمة وهو أمر مرشَّح للتفاقم، وعلى قدرة المستشفيات على مواكبة التقدم العلمي والأبحاث، وهما أمران أساسيان في كل مستشفى لتحسين نوعية خدماتها الطبية، كما دفع ببعضها الى إغلاق عدد من الأقسام والاستغناء عن طواقمها التمريضية".
المستوى الثاني من المشكلة في رأي علامة هو بلا شك "تخبط الدولة في مواجهة جائحة كورونا. فالحكومة المستقيلة التي فشلت في احتواء "كوفيد - 19" والحدّ من زحْفه بقراراتها غير المدروسة، ركّزتْ فقط على تقوية مستشفيات القطاع العام لتكون خط المواجهة الأول أمام الجائحة وعقدت اتفاقية بين لبنان والبنك الدولي تقضي بتخصيص 80 مليون دولار للقطاع الصحي بينها 40 مليون لتأهيل المستشفيات الحكومية يُستعمل 20 مليون منها لمواجهة كورونا. ولكن للأسف عدد قليل من هذه المستشفيات الحكومية تم تجهيزه، أما العدد الأكبر فلم يتجهّز نظراً الى عدم وجود قدرات تقنية فيه أو طواقم طبية وتمريضية متخصصة، ليقتصر عدد المستشفيات على أربع. وفي تركيزها على القطاع العام، لم تقدّم الحكومة أي مساعدات للقطاع الخاص رغم كونه يؤمن 80 بالمئة من الخدمات الاستشفائية ولم تدعمه ليتمكن من مواجهة جائحة كورونا بكل طاقته، فكان عدد المستشفيات الخاصة المجهزة لاستقبال مرضى كورونا محدوداً".
اليوم تدارك المسؤولون الأمر، يقول علامة "وطلبوا من المستشفيات الخاصة تجهيز منشآتهم لاستقبال مرضى كورونا لكن الأوان ربما يكون فات، فالتجهيز ليس بالأمر السهل ويتطلّب جهداً وأموالاً وهنْدسة جديدة لإنشاء بنى تحتية للعزل ومداخل خاصة وأنظمة تهوئة وغيرها إضافة الى المعدات وآلات التنفس وإعداد الفرق التمريضية، في حين كان من الممكن منذ ستة اشهر تخصيص مبالغ من القرض السابق لهذه المستشفيات أو التوجه الى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أو أي جهات مانحة لطلب المساعدات للقطاع الصحي في هذا الظرف الحرج جداً".
منافسة حادة بين التجربة اللبنانية والإيطالية
من هنا بات الواقع مرعباً فلا أسرّة كافية في المستشفيات لمرضى "كورونا" ومن يُصَب يجد صعوبة بالغة في تأمين سرير له في مستشفى بحيث بات محتملاً جداً ان تكون التجربة اللبنانية أسوأ من التجربة الإيطالية في ظل تَزايُد أعداد المصابين وعدم اتخاذ اجراءات الوقاية اللازمة من المعنيين وخصوصاً على مشارف الموجة الثانية التي بدأت تطل ببراثنها مع بدء موسم الإنفلونزا الشتوية.
وكأن كل ما ذكره علامة لا يكفي، ليأتي المستوى الثالث من المشكلة الذي يتجسد بهجرة الأطباء والطواقم التمريضية، الأمر الذي يشي بزعزعةِ الأسس التي قامت عليها شهرةُ القطاع الصحي في لبنان. فالأطباء يصرخون ويئنّون ولا مَن يسمع صوتَهم. فمن جهةٍ يدعوهم نقيب الأطباء للانخراط الأوسع في المعركة الشرسة ضد "كورونا" ويطالب بتجهيز المستشفيات لأن الجميع معرّضون على مشارف الأنفلونزا، ومن جهة أخرى يجدون أنفسهم بحسب قول أحدهم انحدروا مادياً ومعيشياً بحيث لم يعودوا قادرين على تأمين تثقيفهم الطبي المتواصل الذى يتطلّب سفراً ومؤتمرات وكتباً ومَراجع. وكذلك باتوا يجدون صعوبة في تأمين احتياجات عائلاتهم في ظل احتجاز أموالهم من المصارف، وتالياً صارت الهجرة الحلّ الوحيد أمام الكثيرين منهم، وهي هجرة لها انعكاسات قاسية تكاد تكون مميتة على المجتمع اللبناني الذي لن يعود قادراً لا في مستشفياته ولا عبر أطبائه على الحصول على عناية صحية كان يتباهى بها سابقاً وله بها ثقة عمياء.
معاناة المستشفيات والأطباء تواكبها معاناة الجسم التمريضي، فماذا تقول د. ميرنا ضومط نقيبة الممرضات والممرضين الذين يشكلون خط الدفاع الأول في وجه جائحة "كورونا" الجامحة التي يعيشها لبنان، والذين يتحملون العبء الأكبر جراء انهيار الوضع الصحي والاقتصادي في "بلاد الأرز"؟
تؤكد ضومط لـ "الراي" أن وضع التمريض سيء منذ ما قبل الجائحة "إذ ان الممرضات تعرّضن أكثر من مرة لحملات طرْد تعسفية من المستشفيات التي امتنع بعضها عن إعطائهم رواتبهن المستحقة أو قام بحسومات على الراتب، كذلك بات على كل ممرضة أن تتحمل مسؤولية عدد أكبر من المرضى يفوق ما هو مسموح به. وجاءت جائحة كوفيد-19 لتزيد طين وضعهنّ بلة حيث تضاعف الضغط الجسدي والنفسي وحتى الاقتصادي عليهن. وباتت الممرضات في الأقسام الخاصة بـ "كورونا" يتحملن وحدهن مسؤولية مرضى الفيروس ودعمهم النفسي وتقديم كل تفاصيل العناية لهم بعدمكانت عائلة المريض عادة تتدخل و تساعد و تقوم بجزء كبير من الدعم المعنوي. وفي غمرة هذا الدور الصعب تجد الممرضات أنفسهن أحياناً غير قادرات على الوصول الى عملهن نظراً لافتقادهنّ الى أجرة النقليات، فيما هنّ يعانين عدم توافر بديل عنهن إذا مرضن ومن تنمّرٍ من عائلاتهن ومعارفهن كونهن مصدراً لانتقال عدوى "كورونا".
وقد تفسر الأرقام ما تتعرّض له الممرضات من ضغوط، فالمستشفيات تستقبل يومياً عدا مرضى "كورونا" الذين تتزايد أعدادهم بشكل مخيف، ما بين 6 الى 7 آلاف مريض يومياً يحتاجون الى عناياتٍ تمريضية متنوعة ما يضع على أكتاف الممرضات والممرضين أحمالاً ثقيلة فيما هم يعانونمن عدم نيلهم لحقوقهم المادية وعدم تأمين وسائل الحماية الكافية لهم للعمل ضمن أجواء محفوفة بالمخاطر "فحتى الأقنعة يصعب وجودها أحياناً".
وتشير ضومط إلى "أن هذا الواقع الصعب أدى للأسف إلى موجة هجرة واسعة بين الممرّضات ولا سيما من حملة الشهادات ومَن يملكن الخبرة، الأمر الذي يدق ناقوس الخطر حول نوعية التمريض، فالخبرة في المجال التمريضي حجرُ أساسٍ وهي تتراكم عبر السنين. وغياب أصحاب الخبرة يعرّض العنايات الصحية في المستشفيات الى مخاطر كثيرة. لكن في المقابل ثمة ما يدعو الى التفاؤل إذ يتخرّج كل عام من الجامعات والمعاهد اللبنانية نحو 1200 ممرّضة وممرّض ينتظرون فرصة للدخول الى مجال العمل ويمكن الاستعانة بهم لتوفير الحاجة لأعداد متزايدة من مقدمي العنايات الصحية".
"دواء أسود" يهدّد اللبنانيين
خارج المستشفيات يشكل انقطاع الدواء هاجساً مُرْعِباً لدى اللبنانيين بدأت مفاعيله تظهر بوضوح بعد اختفاء عدد كبير من الأدوية من الصيدليات ولا سيما المختصة بالأمراض المُزْمِنة مثل القلب والضغط و السكري وحتى أدوية السرطان. وهذا الواقع دَفَعَ الناس إلى التهافت على الصيدليات بشكل غير مسبوق، وكثر لم يجدوا دواءهم المعهود فاضطروا الى استبداله بنظائر له ما زالت متوافرة في المستودعات، فيما عَمَدَ آخَرون إلى تخزينِ أكثر من علبة من أدويتهم ليؤمّنوا عدم انقطاعها عنهم.
وبدأت هذه "البلبلة" حين أَنْذَرَ مصرف لبنان كل المعنيين بأنه سيرفع الدعم عن الأدوية، ما حدا ببعض المستوردين وأصحاب المستودعات إلى عدم توزيع الأدوية المخزّنة عندهم على الصيدليات في انتظار تحديد أسعار جديدة لها، الأمر الذي تَسَبَّبَ باختفاء الأدوية من الصيدليات. ومن جهة أخرى سبّب تَعَثُّرُ الحصول على الدولار أزمة كبرى لدى المستوردين الذين ما عادوا قادرين على الاستيراد والدفْع بالعملة الصعبة رغم دعم مصرف لبنان للأدوية بنسبة 85 بالمئة على سعر صرف 1515 ليرة لكل دولار.
وحتى اليوم لا يزال سعر الأدوية على حاله، لكن متى رُفع الدعم كما تشي كل المؤشرات وربما تباعاً ابتداء من نهاية السنة، فإن المشكلة ستكون بحجم كارثة تطال ليس فقط المريض اللبناني بل كل القطاع الصحي ولا سيما الجهات الضامنة. فرفْع الدعم يعني التحول نحو السوق السوداء لتوفير الدولار للاستيراد مع ما يعنيه ذلك من ارتفاعٍ جنوني في سعر الدواء يعادل خمس مرات سعره الحالي، الأمر الذي يُنْذِر بغرق لبنان في كارثة حقيقية تهدّد أمنَه الصحي والاجتماعي.
وبالأرقام فإن 35 بالمئة من اللبنانيين غير خاضعين لأي جهة ضامنة، ونصف هؤلاء باتوا تحت خط الفقر، فكيف بإمكانهم تحمل الزيادة المتوقّعة في أسعار الدواء؟ اما الجهات الضامنة التي تغطي 65 بالمئة من اللبنانيين وتتحمل تكاليف 80 بالمئة من سعر الدواء فميزانياتها كلها بالليرة اللبنانية ولا يمكنها تحمل أي زيادة في أسعار الدواء تجعل مصاريفها أكبر من ميزانيتها وتُعَرِّضُها للإفلاس أو تضطرها لتغطية أقل من 20 بالمئة من سعر الدواء. والخوف كل خوف أن يحلّ الدواء المزوّر مكان الأصلي ويملأ الفراغ تاركاً اللبنانيين في براثن أزمة مميتة.
تقنين الدواء حل موقت
نقيب الصيادلة في لبنان غسان الأمين يرفع الصوت عالياً ويحذّر من الأسوأ ومن انهيار القطاع الصيدلي بأكمله إذا تم رفع الدعم من دون التشاور مع نقابة الصيادلة والقطاعات الضامنة والمستشفيات لوضع خطة عملية لمواجهة هذه الكارثة. وفي رأيه أنه بين دعم مطلق بمليار دولار أو رفع الدعم بالكامل يمكن إيجاد حل وسط من خلال إيجاد صندوق خاص لدعم الدواء يتيح استمرار الدعم لمدة 9 أشهر بدل الأشهر القليلة المتبقية ويؤمّن استمرارية تأمين الدواء للناس وبنوعية جيدة وسعر مقبول.
كذلك لا بد من تغيير الاستراتيجية الدوائية بأكملها عبر تأمين أدوية مضمونة وآمِنة إنما بأسعار أرخص مثل أدوية الجينيريك التي يمكن أن تحل محل الأدوية المعروفة أو تشجيع المصانع الوطنية على إنتاج الأدوية تحت مراقبة الدولة. المهم عدم ترك الأمور على حالها حتى نهاية السنة بعد أن تكون الفاس قد وقعت بالرأس وحلّت الكارثة.
ولكن حتى الآن لا تزال الحلول للأدوية غير واضحة في ظل حديثٍ عن استمرار الدعم للأدوية الأساسية للأمراض المزمنة والسرطانية ورفْعه عن كل ما عدا ذلك، مع تحديد سقفٍ للدولار الدوائي. وما زال الناس يعانون من تقنين شديد في عدد علب الأدوية التي يمكنهم الحصول عليها شهرياً حتى كاد الأمر يتحوّل في بعض الأحيان الى سوق سوداء رغم سعي الجهات المختصة الى مكافحة الأمر وتقنين عملية توزيع الأدوية على الصيدليات وعملية بيعها من الأخيرة.
وكأن سنين ضوئية قد عبرت في تاريخِ بلدٍ كان "مستشفى الشرق" فإذا بمواطنيه يتخبّطون في إيجاد سريرٍ لمرضاهم في المستشفيات، وأطباؤه وجسمه التمريضي يبحثون عن أرضِ أحلامٍ جديدة لهم.