No Script

شاهِدُ بقصوره على أيام لبنان الذهبية

«جمهورية السراسقة» في بيروت... آخِر مَظاهِر الأرستقراطية

تصغير
تكبير

لبنان كما نعرفه صار متعباً مُثْقَلاً بالهموم. بالأمس أطفأ شمعة مئويته الأولى، مئويةٌ حملتْ أمجاداً وعزاً كما اختزنتْ حروباً وآلاماً.

مَن عرف لبنان في أيامه الذهبية، لا شك يذكر بلداً رائداً رائعاً يستند إلى تاريخ طويلٍ من الحضارة والتراث والثقافة، ومَن عايش بيروت في شبابها يحنّ الى سيّدة أرستقراطية جميلة تعشق الحياة، يفوح الجمال من كل ملامحها وعِطْرُ الرقي والأناقة من كل ثناياها. لكن الظروفَ عاكستْ «زهرةَ الشرق» كما عاكستْ لبنان وسرقتْ من عاصمته الجميلة رونقَها وسحرَها.

الحداثة قضمتْ تراث بيروت، والحربُ الأهلية أنهكت أحياءها، وجاء الانفجار الهيروشيمي الأخير في مرفئها ليضع ما يشبه نقطة الختام على أبرز مَعالم تاريخها. لكن كل ذلك لم يمحُ الذكريات الجميلة، ولم ينزع من البال صورةَ حيٍّ كان من أرقى أحياء بيروت وأرفعها: حيّ السراسقة الذي نستعيد اليوم حكاية عزّه مع رحيل آخِر أيقوناته اللايدي إيفون سرسق كوكرن أو سيدة القصر كما يحبّ أن يسميها البعض.

مع طلقاتِ الحرب الأهلية الأولى، بدأت تتشوّه ملامحُ بيروت وتضيع الجواهرُ الثمينة التي تزيّن أرجاءها. ومع فوضى العمران العشوائي التي بزغت إبّان انتهاء الحرب أخذت العاصمةُ تفقد شيئاً فشيئاً ألقها القديم وتَرَفَ العيش الذي رافق حياتها في القرنين الماضيين. تَرَفٌ اتخذ أجمل صورة له في حيّ ارستقراطي راقٍ يحمل اسمَ الأسرة التي أنشات فيه أول قصورها: حي السراسقة في الأشرفية. حينها كانت تلّة الأشرفية لا تزال بِكراً تربض على كتف بيروت وتشرف عليها من علو. وكانت تلك الرابية الجميلة التي يتلاعب الهواء في أرجائها تُعتبر مصيفاً للمقتدرين من أهل العاصمة.

السراسقة أول قصر وأول سيارة

كان حي الجميزة القديم عند أقدام الأشرفية جامعاً للحرفيين وبعض التجار الصغار، وكان «قبضايات» بيروت يجتمعون في فيء شجرات الجميزة يتحدثون عن بطولاتهم ومآثرهم في وجه العثمانيين. وكانت زواريب هذا الحيّ الكثيرة وأدراجها مخبأ للصوص لكثرة ما كانت ترفل به من زوايا مظلمة تصْلح ملاجئ للفارين.

لكن الحي الشعبي القديم كان يضجّ بالحياة والناس والبيوت القديمة، وشكّل شرياناً يمد ساحة البرج بالناس والبضائع. وعلى كتف هذا الحي الشعبي ووسط أشجار باسقة وأراض واسعة، اختار موسى سرسق أن يبني قصراً له، وهو ابن عائلةِ سرسق الغنية التي يقال إنها أتت الى لبنان من مرسين في تركيا واتخذت من رأس بيروت مقراً لها. ثم حين أراد أحدُ أبنائها بناءَ قصرٍ له خارج زحمة العاصمة اختار تلّة الأشرفية ليقيم على أطراف حي مار نقولا بالتحديد قصراً رائعا محاطاً بأشجار الصنوبر ومكللَّاً بالأزهار من كل جانب. وقد بناه على الطراز الشامي مع زخرفاتٍ عربية وإيطالية وجَعَلَ مساحاته الخارجية حدائق غناء رائعة تستقبل أجمل حفلات ذاك الزمن وأرقى الزوار من قناصل الدول وأبناء العائلات البرجوازية البيروتية. ويقال إن حي السراسقة شهد أول سيارة في لبنان من نوع Panhard Et Levassor استقدمها موسى سرسق خصيصاً لزوجته الإيطالية وخصص لها سائقاً إيطالياً فميّزها بذلك عن سائر نساء الحيّ ورجاله الذين كانوا لا يزالون يستخدمون عربات الخيل.

وكان بناء قصر موسى سرسق فاتحةَ خيرٍ على المنطقة الواقعة بين «مار نقولا» و«الجميزة»، فتوالى بناءُ القصور من عائلة «سرسق» وما يُعرف بالعائلات البيروتية السبع وهي عائلات ارثوذكسية سكنتْ رأس بيروت أولاً وتآختْ مع العائلات السنية العريقة في المنطقة ثم انتقلت الى الأشرفية وكان أبرزها الى جانب آل سرسق، عائلة بسترس وتويني وطراد وفياض وداغر وفرنيني. وقامت هذه العائلات ببناء قصورها الخاصة في الشارع المذكور حتى تحوّل من بساتين زراعية وأراض مهمَلة إلى أرقى وأفْخم شوارع بيروت.

وإذا كان قصر موسى سرسق الذي آل الى حفيدته اللايدي إيفون سرسق كوكرن هو أجمل تلك القصور، فإن القصر المهيب الذي بناه قريبه نقولا سرسق تحوّل متحفاً بناء على وصيته تشرف عليه الدولة اللبنانية ويضمّ آلاف القطع الفنية والتراثية. لكن المتحف الذي عصي على الحرب اللبنانية وعلى غابات الإسمنت التي أكلت المنطقة تضرر كثيراً بفعل انفجار مرفأ بيروت وذهب معه إرث ثقافي لا يُقدّر بثمن.

ومن بين قصور حي السراسقة قصر بسترس التراثي الذي تحوّل مقراً لوزارة الخارجية اللبنانية وصار شاهداً على ديبلوماسية الحرب والسلم، والذي أصابه تفجير المرفأ بأضرار جسيمة فخلع للمرة الأولى «قفازاته» و«نزحت» الخارجية إلى مكاتب ​جديدة​ في مبنى وزراء ​الدولة​ سابقاً في وسط ​بيروت​.

ومن أشهر قصور الحيّ الشهير أيضاً، فيلا ليندا سرسق وحدائقها التي كان يُضرب المثَل بجمالها وفخامة حفلاتها التي كانت تستقبل ملوكاً وأمراء وأعيانا من أوروبا وروسيا والسلطنة العثمانية، كما تستضيف حفلات الشاي النسائية التي كانت تتبارى فيها سيدات ذلك العصر بارتداء أجمل الأثواب المستقدَمة خصيصاً من باريس.

قصور وقناصل وسياسات

وقد لعب حي السراسقة دوراً مهما في سياسات ذلك العهد في لبنان، ولا سيما في فترة الحرب العالمية الأولى والانتداب الفرنسي، وكان ملتقى لكبار رجالات لبنان ولقناصل الدول المختلفة، كما كان مقراً للعديد من المفوّضين الساميين الفرنسيين الذين أضاف وجودهم إليه نكهةً خاصة حملت اللمسات الفرنسية بعدما كانت دول عدة مثل بريطانيا العظمى وروسيا والنمسا وبلاد الفرس لها وكلاؤها فيه، أي ما يشبه القناصل الفخريين بلغة اليوم، وكانوا جميعهم من أبناء عائلاته ولا سيما سرسق وبسترس وتويني ويتمتعون بامتيازات كبيرة.

وعَرف حي السراسقة في فترة الانتداب وبعده حتى الاستقلال (1943) أيام عز ورخاء وازدهار، وظلّت قصورُه تتفيأ في ظل أشجارها هانئةً وتربض شامخةً على كتف مدينة بيروت التي راحت تتوسع شيئاً فشيئاً ويطالها العمران مع أوائل الخمسينات من القرن الماضي.

كانت نساء آل سرسق مثالاً أعلى يُحتذى في الأناقة والرقي والسلطة، ولم يكنّ عابرات في حياة الحي بل كان وجودهن هو ما يضفي عليه تلك اللمسة الاجتماعية الصاخبة ويجعله مركزاً لكل الحياة الأرستقراطية في بيروت ونقطةَ جذبٍ تلتقي فيها كل أخبار المدينة وأهلها وكل أسرار العائلات وثرثرات السياسيين. فعند هؤلاء السيدات وفي قصورهن كانت تلتقي نخبة الناس وتُحاك الأحداث وتُطبخ الزيجات. وكانت النسوة اللواتي يجتمعن في قصور السراسقة يعززن الحركة الاقتصادية والتجارية بما ينفقنه على ملابسهن والقبعات والمجوهرات وعلى الهدايا التذكارية التي يتبادلنها، وحتى على أطقم الشاي التي يستخدمنها في الحفلات وما يرافقها من أصناف كايك وبسكويت وحلويات مرهفة الصنع. وكانت الحفلات التنكرية التي تعدّها سيدات القصور، وأشهرهن إميلي سرسق وليندا سرسق ومن بعدهن إيفون سرسق التي باتت تعرف باسم لايدي كوكرن إثر زواجها من أحد النبلاء الإيرلنديين، حدَثاً اجتماعياً مميزاً يترقّبه كبار القوم بشغف.

ولأن دوام الحال من المُحال، بدأتْ الأيام تتغيّر على ساكني الحيّ وخصوصاً مع رحيل الرعيل الأول والثاني وانتقال الأملاك الى الورثة الكثر، وهو ما تَرافَقَ مع تبدُّل أسلوب الحياة في بيروت.

أولى نكسات الحي بدأت حين تَقَرَّرَ توسيعُ طريق «مار نقولا» وتحويله الى شارع رئيسي في الأشرفية يصلها ببيروت. حينها كان تخطيط الطريق يقضم مساحات من حي السراسقة والشوارع الصغيرة المحيطة به. ويُروى ان ابنة موسى سرسق وقفت سداً منيعاً في وجه هذا المشروع وسعت للحفاظ على حدائق الحيّ وأراضيه لكن جهودها لم تثمر بشكل كلي وشُقّت الطريق وشُقّ معها الباب واسعاً الى تغيّرات كبيرة في المنطقة.

سيدة القصر

وبدءاً من أواخر خمسينات القرن الماضي، راحتْ ترتفع حول حي السراسقة وعلى أطرافه مبان سكنية لا لون لها ولا طعم، لا تحمل من الهندسية التقليدية شيئاً ولا تشكل امتداداً لتراث بيروت العريق. حينها دقت وريثة آل سرسق ناقوس الخطر واستشعرت بأن الآتي من الأيام سيمحو قروناً من الإرث البيروتي العريق، فقامت إيفون سرسق بتأسيس جمعية ASPAD وهدفها المحافظة على الإرث الثقافي والعمراني والتراثي لمدينة بيروت من خلال حماية مبانيها وقصورها ذات الهندسة التقليدية المميزة.

وبدأت اللايدي كوكرن منذ ذلك الحين حملات حادة قادتْها ضد المستثمرين والوزارات المختصة بهدف منع بيع القصور وتحويلها الى أبراج وعمارات عصرية والحفاظ على ما تبقى منها وتصنيفها كمبان تراثية يمنع بيعها. ويروى عنها أنها عارضت بشدة بيع قريباتها ورثة ليندا سرسق الفيلا التي ورثنها مع حدائقها، ما اضطرّ مستثمراً اشترى الأرض المجاورة إلى بناء برج بهنْدسة «اضطرارية» بحيث أنه يعلو فوق الحديقة الخارجية للفيلا ويَنظر إليها... من فوق.

وفي الواقع مع حلول الحرب اللبنانية تَشَتَّتَ أبناء حي سرسق. بعضهم بقوا فيه وثبتوا في أرضهم لكن كثراً منهم هاجروا أو رحلوا عن الحياة تاركين قصورهم إما مهجورةً تآكَلَها القِدَمُ وباتت هياكل فارغة، أو قام الورثة ببيع ميراثهم الى مستثمرين يبحثون عن الربح المادي. سعى بعض هؤلاء الى اقتناء تلك القصور وتحويلها مقرات لأعمالهم أو مطاعم وصالات أو حدائق للحفلات، كما سعى بعضهم الآخَر الى هدم القصور المتداعية وتحويلها سنترات تجارية وأبراج سكنية عصرية أو حتى مرائب للسيارات، ما جعل حي السراسقة يتخذ وجهاً آخر حزيناً ومكتئباً رغم تشبُّث البعض بالحفاظ على إرثهم ولا سيما سيدة القصر أو اللايدي إيفون سرسق التي حافظتْ بكل ما أتيت من قوة وثقافة على قصر أجدادها ورعتْه الى أن جاء انفجارُ مرفأ بيروت وعاث به خرابا ودماراً أشد قسوة مما شهده الحي وقصوره على مدى عقود طوال.

... وكأن حياتها ارتبطت بحياة ذاك القصر التراثي الجميل الشاهد على شباب بيروت وعزّها، رحلت لايدي كوكران، آخِر أيقونات بيروت، بعيد شهر على الانفجار نتيجة إصابتها بسببه عن عمر ناهز المئة، وتركت خلفها قرناً من الذكريات الجميلة، طاوية بذلك صفحة أرسطقراطية راقية من صفحات بيروت الجميلة.

... حي السراسقة آخر الأحياء الأرستقراطية في بيروت يَنظر بألم مجبول بالأنين الى ما آلت إليه حال مدينةٍ هبطت من علو بعدما واجهتْ أعاصير عَصَفَتْ بها من الخارج ونكباتٍ نَخَرَتْها من الداخل.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي