تأليف الحكومة في لبنان دَخَلَ مرحلةَ «كشْف النيات» و... العقد
دَخَلَ تأليف الحكومةِ في لبنان، الامتحانَ الأهمّ لمدى استعداد القوى السياسية لاعتمادِ قواعدَ مختلفة لـ «اللعب» تُحاكي استشعارَهم بحراجة الواقع المالي - الاقتصادي ومستوى «تَحَلُّل» المؤسسات، والذي بات يحتاج إلى جراحةٍ يُراهَن على «مبضع» المبادرة الفرنسية لإجرائها، وإن يكن مسعى باريس انزلق إلى «لبْننةٍ» بقوّة وقائع داخلية «مُكَرَّسة» يوازيها تَدويلٌ ضمني يشكّل الملفُ الحكومي ومآلُه أحد وجوهه.
ورغم أن السياقَ الذي يسير فيه تشكيلُ الرئيس المكلف سعد الحريري حكومتَه يعكس في رأي البعض أن «القديم سيبقى على قدمه» في الجوهر ولكن بقالب مختلف، فإنّ أوساطاً سياسية ترى أن «الحلّة الجديدة» التي يُعمل على محاولة اقتناصها بفعل حاجة الائتلاف الحاكم (حزب الله - التيار الوطني الحر) إلى «انكفاءٍ تكتي»، لا تقلّل من معاني اضطرارِ هذا الائتلاف لاعتماد منحى تَراجُعي ولو ربما من باب «إعادة التموْضع» في ضوء تحوّلاتٍ في المحيط ومَفاعيل لعبة «الجزرة» الفرنسية و«العصا» الأميركية (العقوبات).
وترى هذه الأوساط أنه بمعزل عن نجاح الثنائي الشيعي «حزب الله» - رئيس البرلمان نبيه بري في فرْض احتفاظ المكوّن الذي يمثلانه بحقيبة المال وجرّ الجميع إلى إسقاط معيار «المستقلّين» عن الوزراء الاختصاصيين غير الحزبيين، فإنّ ما ستحمله الأيام القليلة المقبلة سيكون كفيلاً بتظهير مدى إمكان نجاح الحريري في تسجيل مجموعة أهداف في مرمى الآليات السابقة للتأليف بما يشكّل في ذاته أحد مؤشرات الخروج من مرحلة «العمل كالمعتاد» التي يراقبها الخارج بـ «عين حمراء» ويشترط نقْضَها وإلا نَفَضَ يدَه من أي دعْمٍ للبنان الذي يتدحْرج في الهاوية.
ومن هنا تعتبر الأوساط أن النقاش التفصيلي الذي بدأه الحريري أمس بلقاءٍ ثالثٍ منذ التكليف مع رئيس الجمهورية ميشال عون اكتسب أهمية كبرى لجهة استكشاف مدى «الانحناءة» التي سيذهب إليها «حزب الله» - «التيار الحر» في تسهيل استيلاد حكومةٍ يقاربها الأول من زاوية مشروعه الإقليمي واقتياد البلاد إليه، والثاني من خلفياتٍ تتصل بالحاجة لحفْظِ مَراكز نفوذ «ترْبط» مع استحقاقاتٍ مقبلة، فيما يتعاطى الرئيس المكلف مع مهمّته على أنها ردّتْ، انطلاقاً من عودته لرئاسة الحكومة، التوازن على مستوى الرئاسات وما يشكّله كلٌّ منها من امتداداتٍ في النظام، كما أنها الفرصة الأخيرة لإخراج لبنان «على البارد» من «ممرّ الفيلة» الإقليمي ومن حفرتها المالية السحيقة.
وقبيل توجّه الحريري عصر أمس إلى بعبدا حيث كان لقاءٌ أعلن القصر الجمهوري أنه «عُرض خلاله الوضع الحكومي في جو من التفاهم على ما تحقّق حتى الآن من تَقَدُّم»، بقيت الإيجابيةُ الحذِرة طاغيةً وسط بدء تظهير مكامن بعض التعقيدات التي سيؤشّر التصلّب حيالها من هذا الطرف أو ذاك المؤشرَ الفعلي لِما إذا كان ما يحصل هو مجرّد تحسين شروط تحت سقف قرار التشكيل السريع للحكومة أم أنه يُخْفي محاولاتٍ لإغراق مسار التأليف بألغام للشبْك مع مرحلة ما بعد الانتخابات الأميركية الأسبوع المقبل.
وإذ تقاطعتْ معطيات عند أن الرئيس المكلف حمل في جعبته إلى قصر بعبدا مسودّة أولية لحكومةٍ مع توزيع حقائبها على الطوائف من دون إسقاطها على القوى السياسية التي لم يُحسم بعد أي منها سيشارك وتحديداً في المقلب المسيحي، لم يكن ممكناً الجزم بما إذا كان الحريري سلّم بحكومةٍ من 20 وزيراً في ضوء معلوماتٍ أشارت إلى أنه مستعدّ للقبول بتشكيلة من 18 عوض 14 كانت خيارَه الأول، في حين بقيت الأنظار على ما إذا كان «حزب الله» سيصرّ على التمسك أيضاً بحقيبة الصحة التي يضع «الحزب التقدمي الاشتراكي» (بزعامة وليد جنبلاط) عيْنَه عليها (لاختصاصي غير حزبي)، وسط خشيةٍ من أن يؤدي نجاح «حزب الله» في الإبقاء على المالية والصحة (للثنائي الشيعي) الى تعقيد مجمل محاولة تدوير الحقائب التي يعمل عليها الحريري والتي تشكّل وزارة الطاقة «أمّ الحقائب» فيها (كانت من حصة فريق عون) هي التي تُعتبر محوريةً في عملية الإصلاح.
وفيما استمرّ الإيحاء بأن الحريري وفي سعيه للمداورة، مع تحييد المال فقط، سينطلق من حصة المكوّن السني ويتخلّى عن الداخلية التي ستؤول حكماً لفريق عون (يطالب بها منذ أعوام طويلة)، فإن معلومات نقلها تلفزيون «ال بي سي آي» تحدّثت عن محاولةٍ لحلّ مسألة حقيبة الطاقة على قاعدة الترويج لاسم يتولّاها بدأ تداوُله فرنسياً ويشكل نقطةَ تقاطُع بين الحريري ورئيس «التيار الحر» جبران باسيل وهو كريستيان قمير، في ظل أجواء نُسبت الى «التقدّمي» عن أنه سيكون مسهّلاً في موضوع «الصحة» ولكن «من ضمن الثوابت»، أي التمثيل الوازن للمكوّن الدرزي الذي تبرز في إطاره أيضاً عقدةٌ تتمثّل في لمَن ستؤول الحقيبة الثانية بحال أصرّ الائتلاف الحاكم على تشكيلة لا تقلّ عن 20، وسط زيارةٍ لافتة قام بها النائب طلال ارسلان أمس لعون الذي يفضّل تمثيل ارسلان في الحكومة.
وإذ كانت وسائل إعلام «التيار الحر» تتحدّث عن أن «حقيبة الطاقة لا تزال خاضعة للنقاش ومسألة لمَن ستُسنَد لم تُحسم بعد، وإذا سارت المداورة على الحقائب الأخرى فلا مشكلة بالمداورة بالطاقة أيضاً»، تقاطعتْ مؤشرات إلى أن الحريري لن يقبل بأن تسمّي القوى السياسية وزراء لها في الحكومة على طريقة «الإسقاط» وأن اشراكَها في تسميةِ الاختصاصيين غير الحزبيين سيكون عبر صيغةٍ يعرض بموجبها هو أسماء لتختار الأطراف بينها وليس العكس.