على وقع بدء نضوب دولارات «المركزي» لتمويل السلع الإستراتيجية
لبنان على مَشارف سيناريو مالي - اجتماعي حالك السواد
- تعذر الدعم وانسداد قنوات المساعدة الخارجية يضعان 70 في المئة من المقيمين بخانة العَوز
تتسارع وتيرةُ ضيقِ سبل عيش المقيمين في لبنان، من مواطنين ونازحين ولاجئين، لتحاكي مستويات كارثيةٍ، بقيادةٍ مثلثة ومتفلّتة من أي قيود، تبدأ من تَواصُل انحدار سعر العملة الوطنية إزاء الدولار الذي بلغ عتبة 9 آلاف ليرة، وتمرّ بالفوضى العارمة في التسعير لمجمل قنوات الإنفاق والمواد الاستهلاكية، وتصل إلى تبديد الجزء الأكبر من المبالغ المخصصة لدعم السلع الأساسية والسلّة الغذائية بحاجياتها الأساسية.
ويعكس هذا المسار، الذي يظلّله وضعٌ حكومي شائك وبغيابٍ شبه تام لأجهزة الدولة ومؤسساتها المعنية بضبط أسواق النقد والاستهلاك والتحرّي عن وصول الدعم التمويلي للسلع إلى المستهلكين، مشهداً حالك السواد بدأتْ خطوطُه بالارتسام شحاً في توافر المواد المدعومة، وخصوصاً مادة المازوت الضرورية على أبواب فصل الشتاء، ورفْعاً لخراطيم مادة البنزين، وفقداناً لأنواع مؤثّرة من الأدوية، ولا سيما المخصصة لمعالجة الأمراض المُزْمِنة والمستعصية. ناهيك عن ندرة المستلزمات الطبية المخصصة للاستشفاء والعمليات الجراحية بأنواعها كافة.
وباستثناء الخبز الذي ما زال متوافراً بتسعير 1515 ليرة للدولار، لم يعد مُستغرَباً أن تسمع وتشاهد بأم العين الإقبال على تخزين أي مواد متوافرة في السوبرماركت ودكاكين الأحياء. فالمُكْتَوين بنار الدولار الذين يعانون ذوبان مداخيلهم وما تبقى من ودائعهم بالليرة، ولا خيار أمامهم سوى «تعظيم» الاستفادة من المواد المدعومة على ازدياد نُدْرَتِها وتخزين ما ملكت أيديهم من المواد المعروضة، يستشعرون إلى حد «التيقن» بأن الأسابيع المقبلة ستكون أقسى وأكثر إيلاماً.
توقعات محبطة
ومن غير «شطارة» في التوصيف والترقب السليم، تتعزز صدقيةُ التوقعات المُحْبِطة، وفقاً لقراءات الخبراء وتحليلاتهم، ما دامت الحلول السياسية تتعرقل بدءاً من إجهاض المبادرة الفرنسية، وسط تآكُل دور الدولة ومؤسساتها، وغياب هموم الناس عن أجندات المسؤولين المُسْتَغْرِقين بلعبة المحاصصة واقتسام المتبقي من الرمق المالي السائل أو القابل للتسمين والتوريق في مرحلة لاحقة، فيما حاكم البنك المركزي رياض سلامة يجاهر بقرب نضوب الاحتياطات بالعملات الصعبة التي يمكن التصرف بها لدعم تمويل السلع الإستراتيجية والأساسية.
وهذه الوقائع القاتمة تعزّز الخشيةَ من انتقالٍ متسارعٍ إلى مشهدٍ تنضمّ فيه كامل الطبقة الوسطى إلى صفوف الفقراء المرشحين لولوج مرحلة الفقر المدقع. وثمة تحذيرات تتسم بالجدية من أن تعذُّر تواصل الدعم مقروناً بانسداد قنوات المساعدة الخارجية ستضع نحو 65 إلى 70 في المئة من المقيمين في خانتيْ العوز الجزئي والشديد. ومع إضافة الضغوط الصحية المستشرية، ربْطاً بتفشي وباء كورونا والانحدار المتسارع في البنى الاستشفائية وشحّ الأدوية والمستلزمات الطبية، يمكن تصور «الفيلم الدرامي الطويل» الذي ينزلق إليه لبنان.
حقائق ماثلة
ويؤكد مسؤول مالي لـ«الراي» أن المبالغة في الوصف تتم حالياً على «البارد»، لكنها مرشحة للتجسد كحقائق ماثلة في أسواق النقد خلال أسابيع قليلة قد لا تتعدى مهلتُها شهرين. وكل محطة آتية، وفي مقدمها إلغاء الدعم، ستُفْضي إلى تعقيدات أكثر استعصاءً، وستُضاعِف كلفة الحلول الإنقاذية في المرحلة المقبلة. فتعميم أزمتيْ النقد وتدفُّق الأموال من الخارج على مجمل الأنشطة الاقتصادية أفضى إلى كوارث في مؤشرات الإنتاج والتشغيل والبطالة، وأدى بالتالي إلى تعميق الخسائر المحقّقة التي قدّرتها حكومة الرئيس حسان دياب قبل أشهر بنحو 69 مليار دولار، ولاقت حينها اعتراضات واسعة تشريعية ومصرفية، ومن قبل البنك المركزي، في شأن مرتكزات الحسابات والجمع، وبخصوص المقاربات والتوصيفات.
ويوضح المسؤول أن إقدام الحكومة عيْنها على رمي كرة النار الأولى عبر إعلانٍ رسمي بالامتناع وتعليق مستحقات سندات دين دولية تزيد قليلاً عن المليار دولار في شهر مارس الماضي، أفضى إلى تبديد نحو 10 مليارات دولار، والحبل على الجرار، بغية دعم العملة والاستيراد الإستراتيجي.
وبيّنت التطورات اللاحقة، في رأي المسؤول المالي نفسه، أنه لو أخذت الحكومة برأي أهل القطاع المالي وسدّدت المستحقّ، ثم باشرت بمفاوضات جدية مع الدائنين المحليين والخارجيين واستغلّت العوامل المؤاتية لتأجيل كل مدفوعات الدين لسنوات إلى الأمام، مع تبيان خطة إنقاذ متكاملة وتأكيد التزام الدولة بموجباتها، لَكانت جنّبت البلد مرارة «العصيان» المالي والخروج غير المنظَّم من الأسواق الدولية، علماً أن «عالمية» وباء كورونا وتداعياته على الدول والأسواق والمؤسسات في الأرجاء كافة، كان سيمثل الملاذَ الآمِن الذي تلجأ إليه الدولة لتبرير الضيق المالي، ريثما تنتقل إلى تَمَوْضع ملائم.