أمة وملك... وقارئ ما!
| باسمة العنزي |
«اختارني القدر أم اخترته؟ الاعتقاد الثاني هو المرجح...أحيانا.»
***
لم يحدث من قبل أن طالت فترة قراءتي لكتاب، كما حدث مع رواية «قلب من بنقلان»، بدأت القراءة قبل عامين وتوقفت إلا أن بدايتها لم تفارق بالي، كنت دائما أعد نفسي برحلة قراءة هادئة لأربعمئة صفحة، خصوصا أن الكتاب ليس كتابي وعليّ إعادته!
وما أن بدأت بها ثانية حتى تيقنت أنني تأخرت طويلا في مقاربة هذا العمل الفني والتاريخي، المحبك والمفعم بالجمال والحكمة، والمسيج باعترافات الضحايا وعذابات رحلة مريم، التي استطاعت جذب الضوء لها، وهي تبوح بحكايتها الواقعية وسيرتها الذاتية التي دونها ابنها.
قصة العمل كما قال كاتبها «تصلح أن تقرأ وتشتهر... يتألم منها أناس كثر، كما سيسعد بها آخرون قلائل»*، كقارئة تألمت وتعاطفت مع البطلة/ الشخصية الحقيقية، وسعدت بنص محترف من الخسارة أنه لم يترجم ولن يتحول لعمل سينمائي عالمي، والأكثر خسارة أن الكاتب سحب نسخ الرواية الممنوعة سلفا في بعض الدول العربية من دار النشر والمكتبات لظروف وعوامل قد تكون سياسية وعائلية أو عن قناعة ما!
«قلب من بنقلان»... الصادرة عن دار الفارابي عام 2004 لا طبعة ثانية لها، وطبعتها الأولى موجودة فقط لدى من اشتراها أول أيام النشر.
الراوي كتب سيرة والدته أو «كنزه» كما يدعوها في العمل, مازجا بحرفنة عالية- قصة فتاة بنقلان المليئة باللوعات والانكسارات بفواجع التاريخ والسياسة خلال فترة تمتد أكثر من نصف قرن.
كنت مندهشة من قدرة الأمير سيف الإسلام بن سعود على إيصال مشاعر والدته لي، كمتلقية عبر سردها المتصاعد من مرحلة الطفولة إلى الشيخوخة بمثل هذه المهارة، والتغلغل لروحها وتلمس مواضع الألم واستحضار المشاعر بتلقائية وتمكن.
«مأساة والدي «الملك» الذي لا يلتقي مع والدتي في أي شيء مشترك، إلا أنهم أبناء «المأساة»، وإن اختلفت في الشكل والمضمون.لكن درامية حياتيهما وتوابع ذلك -على الأقل فيما يتعلق بي- لم يكن بالإمكان فك شفرة الصفة القصصية فيها إلا بفهم ما جرى لأحد طرفيها... وبلسان هذا «الأحد») إن أمكن!».*
الأكثر إدهاشا بالنسبة لي قدرة الأمير الفائقة على تجاوز ألف تابو وتابو في رحلة تشبه رحلة صائدي الحبارى في صحراء مليئة بالألغام والكنوز، الحديث عن العائلة والأم والوضع السياسي والاجتماعي بموضوعية وخنق الرقيب الداخلي بشجاعة بما يشبه مغامرة استثنائية، ليس أولها قرار كتابة رواية تاريخية، حيث لم نعتد كعرب أن يكتب القصص والروايات الملوك والرؤساء والشيوخ والأمراء، دائما ما يقرض الموهوبون منهم الشعر تاركين مهمة تقديم شهادات عن المجتمع والعصر للآخرين منعا للإحراج!
دكتور علم الاجتماع سيف الإسلام بن سعود ضمن روايته الكثير من المعلومات المستخرجة من مستودع التاريخ نافضا الغبار عنها، لتكون السيرة الذاتية مدعمة بتاريخ المنطقة من البريمي والرياض وبلوشستان ومسقط وغيرها من المناطق، الوجبة التاريخية الدسمة في العمل أحيانا كانت تقطع على القارئ استمتاعه باللغة الجميلة والعمق المصاحبين للعمل، السرد التاريخي بدا محايدا وهي نقطة تحسب للأمير الذي كان على قدر عال من الوعي بحيث يتقن متى يتحدث عن الشخص لشخصة بمقاربة جوانب إنسانية به أو لكونه شخصية عامة لها ما لها من ايجابيات وسلبيات.
من الملاحظات أيضا أن أسلوب وغزارة معلومات الساردة بطلة العمل بدا على قدر عال من المعرفة والتدفق اللغوي والذاكرة القوية وهو إلى حد ما لم يكن مقنعا بالنسبة لسيدة مسنة لم تحظ بالتعليم.
«كان المطر- بني- حينها يهطل وكأنه لن يتوقف أبدا، بينما قافلة الإماء والعبيد تمضي في المسير وفتاة بنقلانية تحمل في فراغ موحش».*
الأم «مريم» أو نائلة السعود وابنها الدكتور الأمير سيف الإسلام يتساءل القارئ، أيهما كان البطل الحقيقي للعمل، البلوشية بنت بركة التي ألقت بها أقدارها الغريبة كأمة في قصر الناصرية أم الأمير المثقف ابن الملك المخلوع وصاحب الرؤية التاريخية والفلسفية العميقة؟!
«لم أرغب منذ البداية، في أن أجعل من والدتي مجرد ساردة للقصص، أو حكواتية مسلية. كنت أرغب في أن أجعلها شاهدة على عصر مثير انقضى، وان برؤية ذاتية ضيقة للأحداث، لأنه من خلال الشهادات المروية- بصفة عامة- تكتشف خبايا الذات عن الآخر، عن متقابلات الخاص العام، والرؤى المختلفة للقدر ونقائضها من حرية إنسانية مطلوبة»*.
كثيرا ما كتبت عن أعمال تستحق التوقف عندها والحماس لها يملأني، هذه المرة من البداية تيقنت أن عملا كهذا يحتاج كتابة منصفة تليق به وتحتفي ومساحة أكبر للتعليق والنقد. لكن ما الفائدة والرواية ليست في متناول يد القارئ العربي وقد أعيدت لدرج النسيان؟!
تأخرت خمس سنوات في قراءة رواية رائعة ومكتملة، عزائي الوحيد أنني من القلة المحظوظة بوقوع الرواية بين أيديهم ولو عن طريق الصدفة المحضة!
من رواية «قلب من بنقلان» للدكتور الأمير سيف الإسلام بن سعود عن دار الفارابي 2004، ولا عزاء للقراء لأنهم لن يجدوها ولو حاولوا كثيرا!
«اختارني القدر أم اخترته؟ الاعتقاد الثاني هو المرجح...أحيانا.»
***
لم يحدث من قبل أن طالت فترة قراءتي لكتاب، كما حدث مع رواية «قلب من بنقلان»، بدأت القراءة قبل عامين وتوقفت إلا أن بدايتها لم تفارق بالي، كنت دائما أعد نفسي برحلة قراءة هادئة لأربعمئة صفحة، خصوصا أن الكتاب ليس كتابي وعليّ إعادته!
وما أن بدأت بها ثانية حتى تيقنت أنني تأخرت طويلا في مقاربة هذا العمل الفني والتاريخي، المحبك والمفعم بالجمال والحكمة، والمسيج باعترافات الضحايا وعذابات رحلة مريم، التي استطاعت جذب الضوء لها، وهي تبوح بحكايتها الواقعية وسيرتها الذاتية التي دونها ابنها.
قصة العمل كما قال كاتبها «تصلح أن تقرأ وتشتهر... يتألم منها أناس كثر، كما سيسعد بها آخرون قلائل»*، كقارئة تألمت وتعاطفت مع البطلة/ الشخصية الحقيقية، وسعدت بنص محترف من الخسارة أنه لم يترجم ولن يتحول لعمل سينمائي عالمي، والأكثر خسارة أن الكاتب سحب نسخ الرواية الممنوعة سلفا في بعض الدول العربية من دار النشر والمكتبات لظروف وعوامل قد تكون سياسية وعائلية أو عن قناعة ما!
«قلب من بنقلان»... الصادرة عن دار الفارابي عام 2004 لا طبعة ثانية لها، وطبعتها الأولى موجودة فقط لدى من اشتراها أول أيام النشر.
الراوي كتب سيرة والدته أو «كنزه» كما يدعوها في العمل, مازجا بحرفنة عالية- قصة فتاة بنقلان المليئة باللوعات والانكسارات بفواجع التاريخ والسياسة خلال فترة تمتد أكثر من نصف قرن.
كنت مندهشة من قدرة الأمير سيف الإسلام بن سعود على إيصال مشاعر والدته لي، كمتلقية عبر سردها المتصاعد من مرحلة الطفولة إلى الشيخوخة بمثل هذه المهارة، والتغلغل لروحها وتلمس مواضع الألم واستحضار المشاعر بتلقائية وتمكن.
«مأساة والدي «الملك» الذي لا يلتقي مع والدتي في أي شيء مشترك، إلا أنهم أبناء «المأساة»، وإن اختلفت في الشكل والمضمون.لكن درامية حياتيهما وتوابع ذلك -على الأقل فيما يتعلق بي- لم يكن بالإمكان فك شفرة الصفة القصصية فيها إلا بفهم ما جرى لأحد طرفيها... وبلسان هذا «الأحد») إن أمكن!».*
الأكثر إدهاشا بالنسبة لي قدرة الأمير الفائقة على تجاوز ألف تابو وتابو في رحلة تشبه رحلة صائدي الحبارى في صحراء مليئة بالألغام والكنوز، الحديث عن العائلة والأم والوضع السياسي والاجتماعي بموضوعية وخنق الرقيب الداخلي بشجاعة بما يشبه مغامرة استثنائية، ليس أولها قرار كتابة رواية تاريخية، حيث لم نعتد كعرب أن يكتب القصص والروايات الملوك والرؤساء والشيوخ والأمراء، دائما ما يقرض الموهوبون منهم الشعر تاركين مهمة تقديم شهادات عن المجتمع والعصر للآخرين منعا للإحراج!
دكتور علم الاجتماع سيف الإسلام بن سعود ضمن روايته الكثير من المعلومات المستخرجة من مستودع التاريخ نافضا الغبار عنها، لتكون السيرة الذاتية مدعمة بتاريخ المنطقة من البريمي والرياض وبلوشستان ومسقط وغيرها من المناطق، الوجبة التاريخية الدسمة في العمل أحيانا كانت تقطع على القارئ استمتاعه باللغة الجميلة والعمق المصاحبين للعمل، السرد التاريخي بدا محايدا وهي نقطة تحسب للأمير الذي كان على قدر عال من الوعي بحيث يتقن متى يتحدث عن الشخص لشخصة بمقاربة جوانب إنسانية به أو لكونه شخصية عامة لها ما لها من ايجابيات وسلبيات.
من الملاحظات أيضا أن أسلوب وغزارة معلومات الساردة بطلة العمل بدا على قدر عال من المعرفة والتدفق اللغوي والذاكرة القوية وهو إلى حد ما لم يكن مقنعا بالنسبة لسيدة مسنة لم تحظ بالتعليم.
«كان المطر- بني- حينها يهطل وكأنه لن يتوقف أبدا، بينما قافلة الإماء والعبيد تمضي في المسير وفتاة بنقلانية تحمل في فراغ موحش».*
الأم «مريم» أو نائلة السعود وابنها الدكتور الأمير سيف الإسلام يتساءل القارئ، أيهما كان البطل الحقيقي للعمل، البلوشية بنت بركة التي ألقت بها أقدارها الغريبة كأمة في قصر الناصرية أم الأمير المثقف ابن الملك المخلوع وصاحب الرؤية التاريخية والفلسفية العميقة؟!
«لم أرغب منذ البداية، في أن أجعل من والدتي مجرد ساردة للقصص، أو حكواتية مسلية. كنت أرغب في أن أجعلها شاهدة على عصر مثير انقضى، وان برؤية ذاتية ضيقة للأحداث، لأنه من خلال الشهادات المروية- بصفة عامة- تكتشف خبايا الذات عن الآخر، عن متقابلات الخاص العام، والرؤى المختلفة للقدر ونقائضها من حرية إنسانية مطلوبة»*.
كثيرا ما كتبت عن أعمال تستحق التوقف عندها والحماس لها يملأني، هذه المرة من البداية تيقنت أن عملا كهذا يحتاج كتابة منصفة تليق به وتحتفي ومساحة أكبر للتعليق والنقد. لكن ما الفائدة والرواية ليست في متناول يد القارئ العربي وقد أعيدت لدرج النسيان؟!
تأخرت خمس سنوات في قراءة رواية رائعة ومكتملة، عزائي الوحيد أنني من القلة المحظوظة بوقوع الرواية بين أيديهم ولو عن طريق الصدفة المحضة!
من رواية «قلب من بنقلان» للدكتور الأمير سيف الإسلام بن سعود عن دار الفارابي 2004، ولا عزاء للقراء لأنهم لن يجدوها ولو حاولوا كثيرا!