المفارقات الإيجابية الجارية اليوم بين المجموعة الدولية وطهران، هي حديث الساعة، مما لها من تداعياتٍ في غاية الأهمية على صعيد المنطقة. النووي الإيراني كان ولا يزال من أولويات الغرب وشكّل هاجساً للمنطقة العربية بأسرها. لكن قلة تذكر أن البرنامج النووي الإيراني، ليس ابن اليوم. بل ان بدايته تعود إلى أوائل السبعينات من القرن الماضي. لا بل انه من الممكن تلمس اهتمام إيران بالنووي ابتداءً من خمسينات القرن الماضي عندما تبنت الولايات المتحدة الأميركية شعار «الذرة من أجل السلام» وذلك لكي تمحو صورتها البشعة نتيجة استخدامها في قصف هيروشيما ونكازاكي بالقنابل النووية (06/08/1945). في أوائل السبعينات حرص الشاه آنذاك على إنشاء وتطوير الصناعة النووية إلا أنّ حرصه لم يتزامن مع وضع خطط حول معالجة الوقود أو تخصيبه. وفي منتصف السبعينات تم البحث بين إيران وإسرائيل في خطة لاعتماد تطوير صواريخ «أريحا» أرض - جو لاستخدامها في إيران. ولقد أثارت تلك الصواريخ شكوك المراقبين عن نية إيرانية مبيتة لاستخدامات عسكرية مستقبلية للطاقة النووية. خَفُتَ الاهتمام بالشأن النووي إثر تسلم الإمام الخميني الحكم لأسباب عدة أهمها معارضته للثقافة النووية، هجرة عدد كبير من العقول الإيرانية المتخصصة، انهيار البنى التحتية وتراجع القدرة الكهربائية، إضافة إلى انخفاض العوائد النفطية. لكن الذي أثار مجدداً شهية الملالي على النووي يعود الى قدرات العراق النووية آنذاك التي كانت آخذة بالتصاعد، اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية (1980 1988)، بُروز دول أخرى كالصين وكوريا الشمالية كمحورين أساسيين في تزويد إيران بالأسلحة المؤثرة. كل هذه العوامل، فتحت شهية الملالي للتمسك بالنووي. وكانت البوادر الأولى تصليح وتأهيل مفاعل «بوشهر».
في العودة إلى المفاوضات الشاقة بين المجموعة الدولية وإيران، كان الأمر محصوراً بين اثنين لا ثالث لهما: إما إعلان الحرب على إيران وشن غارات عسكرية على منشآتها النووية من قبل الغرب (وإسرائيل) وإما التفاهم على صيغةٍ ما تحفظ ماء وجه الطرفين. يبدو أن الأخبار الواردة أخيراً عن تخلي إيران عن تصلبها، وقبولها بأنّ يتم تخصيب اليورانيوم من قبل دولة أخرى لرفع مستوى تخصيبه، إضافةً إلى قبولها وترحيبها بـ «الوكالة الدولية للطاقة» للكشف عن منشأة قم النووية، رجّح بشكلٍ لا لبس فيه الخيار الثاني. والسؤال، الذي يطرح نفسه بنفسه، ما سر تلك المرونة، لا بل ذلك التراخي الإيراني الذي أدّى الى ما أدّى إليه من تغير مسار المفاوضات بين إيران والدول الخمس + 1؟! ثمة من يعزو ذلك، إلى ثلاثة أسباب: الأول، البرغماتية التي وسمت السياسة الإيرانية في التعامل مع الصديق والعدو (صفقة الأسلحة مع إسرائيل إبانّ الحرب العراقية الإيرانية مثال واضح على ذلك). الثاني، هو الشرخ الداخلي الإيراني الذي بات يشكل عاملاً مقلقاً يستوجب التفرغ له، وبالتالي عدم السماح لقوى خارجية باستغلاله، والثالث، اقتناع طهران بجدية العقوبات خاصةً بعد موافقة روسيا أخيراً على فرض عقوبات على طهران (والتي جاءت بعد معارضة شديدة من موسكو...) تبدأ بحظر الوقود وقد لا تنتهي بفرض قيود على المصارف الإيرانية، علماً أن الرئيس الروسي السابق، فلاديمير بوتين كان قد أطلق عام 2005 مبادرةً شبيهة (رفضتها طهران آنذاك) بالمبادرة الحالية. يومها دعت المبادرة الى إنشاء شبكة ومراكز دولية لتخصيب اليورانيوم وإنتاج الوقود. إلا أنّ إيران أصرّت على حقّها في أن تجري عمليات التخصيب على أراضيها بسبب مخاوف من تحولها إلى رهينة في أيدي الدول الكبرى. وهذا ما عبرّ عنه الرئيس الإيراني أحمدي نجاد أثناء زيارته لمحطة «بو شهر» النووية في ديسمبر 2006، حين قال: «إنكم تقترحون علينا تخصيب اليورانيوم خارج أراضينا وكأنكم تعتقدون أنكم تتعاملون مع بلدٍ من القرون الوسطى، وإذا وافقنا فكيف سيكون الأمر فيما لو فشلتم في يومٍ من الأيام في توريد الوقود النووي اللازم لمشاريعنا».
كان بإمكان المشروع النووي الإيراني أن يحظى بمباركة العرب باعتباره سلاحاً يضمن مصالحهم إضافة إلى مصالح إيران عبر إيجاد توازن استراتيجي يساهم في تعزيز الموقع العربي لا بل الإسلامي في الصراع العربي - الإسرائيلي، لكنّ إيران، فشلت في تحقيق هذا الهدف، نتيجة رغبتها في السيطرة على المنطقة العربية، وزادت من هواجس العرب، بعدما جعلت طهران من الشيعة العرب حزباً تابعاً لها. («حزب الله» في لبنان، دعم المجموعات الشيعية السياسية في العراق، الحوثيون في اليمن، السيطرة على «حماس» في فلسطين، خيرُ مثالٍ)، إضافة إلى محاولات التشييع التي أثارت ردود فعل قاسية، كقطع العلاقات الديبلوماسية بين الغرب وإيران اوائل 2009 وتصريحات الشيخ يوسف القرضاوي والذي أوضح فيها أنّ محاولات التشييع سوف تؤدي وستزيد من التطرف السني.
كان من الواضح طيلة الأعوام الماضية أن النزاع الإيراني - الغربي (الأميركي تحديداً) حول النووي سيؤدي إلى محصلتين: إما توزيع حصص بينهما على حساب الدول العربية طبعاً ومصالحها، بحيث يكرس ويضمن النفوذ الإيراني في المنطقة، مما يعني ذلك من تداعيات على جميع الأطراف العربية ولبنان بطبيعة الحال في الصدارة. وإما مواجهة عسكرية مكلفة تجري على المسرح العربي حيث يحتل لبنان والعراق الصدارة ويدفعان أغلى الأثمان. لكن هذا الود بين الطرفين الذي جاء بعد خصامٍ وجفاء سوف يرجح المحصلة الأولى. ويبدو أن دمشق عاصمة الأمويين بدهائها المعهود قد استبقت أثر ذلك التقارب الأميركي - الإيراني تحسباً لتداعياته السلبية عليها، فحرصت على توثيق علاقاتها بفرنسا وبالولايات المتحدة الأميركية (زيارة وليد المعلم الى باريس، والموفد الفرنسي الرئاسي هنري غينو إلى دمشق، وفيصل المقداد إلى واشنطن منذ أسبوعين) إضافة إلى حرصها على التقارب مع قوى الاعتدال العربي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والذي تجلى من خلال زيارة الرئيس السوري إلى المملكة العربية السعودية للمشاركة في افتتاح جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية.
وفي ما يخصّنا نحن اللبنانيين، فالسؤال المقلق: هل يكون الود الأميركي - الإيراني لحسابنا، أم... على حسابنا؟! اللّهم، ارحمنا!
عبد الرحمن عبد المولى الصلح
كاتب لبناني