أشقاء... من الطفولة إلى الشهرة
كامل ومأمون الشناوي... إبداع حتى الموت / 12
كامل الشناوي
مأمون الشناوي
كامل مع ادباء عرب
|القاهرةـ - من مختار محمود|
أي أسرة في أي مكان... تجتاحها السعادة، عندما يحقق أحد أفرادها نجاحا، يجلب عليه الشهرة، ويضعه تحت الأضواء، نجما متوهجا، يشار إليه بالبنان في مجاله أو مجتمعه وحتى خارجه، وتتهافت على نشر أخباره الصحف والمجلات، ومن ثمَّ يكون مثار فخر لها واعتزازا ليس لأسرته أو مجتمعه الصغير وفقط، ولكن قد يكون لدولته وأمته.
ولكن تلك السعادة سوف تتضاعف... عندما ينجح شقيقان، ويتألقان في مجال عملهما، ويغدوان نجمين في سماء الشهرة والذيوع، وهناك نماذج عربية وغربية من هنا أو من هناك. حققت تلك المعادلة الصعبة، تغلبت على العقبات، وحفرت في الصخر، ووصلت إلى قمة النجومية، وذروة التوهج، حتى انها ظلت باقية في الذاكرة، بالرغم من مرور عقود عدة على رحيلها.
النماذج التي نرصدها لأشقاء أو إخوة مشاهير، تتوزع بين العلم والسياسة والرياضة، والفن، ويجسد كل نموذج منها نبراسا للتحدي والإصرار على النجاح والتميز، ولاسيما أن معظم تلك النماذج، ولدت في أجواء صعبة لا تعرف رفاهية العيش، ولا لذة الحياة، وهو ما دفعها في البداية إلى تحقيق المستحيل، ثم ضاعف سعادتها، عندما وصلت إلى ما وصلت إليه.
ونعرض في تلك الحلقات لأشهر الأشقاء والإخوة... الذين حققوا الشهرة سواء في مجال واحد، أو مجالين مختلفين، فهناك من تألق فنيا «الأخوان رحباني» و«الشقيقان الأطرش»، وهناك من توهج رياضيا مثل «التوأم حسن».
كما أن هناك أشقاء... شقَّ كل منهم طريقه في الحياة في مجال مختلف، ووصل إلى قمة النجاح والتألق «الشقيقان الباز مثال حي»، كما نرصد بدايات كل منهما، وكيف كانت دافعا لهما للإبحار ضد الصعاب والعقبات وتجاوزها، وتحقيق النجاح والشهرة والخلود في ذاكرة البشر، باعتبارهما دليلا حيا على الإصرار والتحدي.
وفي السطور حكايات... تعرفنا عليها... ومواقف توقفنا عندها... وصور نادرة تحكي مسيرة الأشقاء.
شكّل الشقيقان الشاعران المصريان كامل ومأمون الشناوي... ظاهرة فنية فريدة، وطاقة إبداعية لم تنفد بالرغم من رحيلهما، إذ لاتزال إبداعاتهما باقية، في ذاكرة الوجدان العربي حتى الآن.
في بداية القرن الماضي وتحديدا في شهر ديسمبر من العام 1908 ولد الشاعر والصحافي الكبير كامل الشناوي في إحدى قرى مركز «أجا» بمحافظة الدقهلية «شمال دلتا مصر» ... وبعده بـ 6 سنوات تقريبا ولد شقيقه مأمون الشناوي الذي يعتبر واحدا من أهم وأبرز شعراء الأغنية في مصر... من جيل العمالقة الذين أثروا المكتبة الموسيقية بالعديد من الأغنيات الرائعة ... ويعود الفضل لـ «مأمون» في إعادة صياغة أغاني الفلاحين والأغنيات الشعبية الفلكلورية المصرية.
وقد ساهم كامل ومأمون الشناوي في إنعاش الحركة الفنية في منتصف القرن الماضي بأعمالهما التي ستظل محفورة في تاريخ الفن المصري... لأنهما وبحق كانا من المبدعين القلائل الذين شاركوا في جميع الأحداث التي مرت بها مصر عبر تاريخها الحديث.
النشأة الريفية
كان والدهما قاضيا شرعيـا لمحكمة مركز أجا ... وظل قاضيا لهذه المحكمة لفترة طويلة ... وكان يحرص على تعليم أبنائه وإعداهم بالشكل الأمثل للحياة العملية ... قرر أن يلحق الابن الأكبر كامل بالأزهر الشريف لدراسة العلوم الشرعية ... وكان يتمنى أن ينجح كامل في دراسته ليكمل مشواره في القضاء ... لكن الابن لم ترق له الدراسة في الأزهر ولم يستمر فيه أكثر من 5 سنوات ... ترك بعدها الدراسة الأزهرية وعمد إلى مطالعة الكتب في شتى المجالات.
وكان يحرص على حضور مجالس الأدباء لينهل من معينهم الأمر الذي ساهم في تكوينه الثقافي وأضاف إليه العديد من النواحي الأدبية خصوصا وأنه درس في هذه المرحلة الآداب العربية و الأجنبية في عصورها المختلفة ... ما مكنه فيما بعد من إخراج العديد من المؤلفات ومنها «اعترافات أبي نواس» و«أوبريت جميلة» و«الليل و الحب والموت»، بالإضافه لآخر أعماله أوبريت «أبو نواس».
موهبة مشتركة
كان كامل ومأمون الشناوي يحرصان على اكتشاف النجوم الجديدة وتقديمها للجمهور المصري والعربي ... وكانا لا يتحرجان من الكتابة للفنانين الذين يبدأون مشوارهم الفني أو الذين لايملكون أي رصيد فني بالرغم من تحذيرهم من الفشل ... كانا يعتبران مساعدة هؤلاء واجبا فنيا ووطنيا في المقام الأول... ومن ثم فإن المغامرة معهم تستحق التضحية.
بالرغم من أن كامل ومأمون كانا يشتركان في موهبة كتابة الشعر إلا أن تركيز الأول كان منصبا بشكل أكبر على العمل في الصحافة وبدأ مشواره في بلاط صاحبة الجلالة بالعمل في «جريدة الوادي» عام 1930 مع عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين ... ومنذ خطواته الأولى في الصحافة نجح كامل الشناوي في لفت الأنظار إلى موهبته وأثنى عليه كبار الصحافيين وبمرور الوقت أصبح واحدا من أفضل الصحافيين الذين يشار إليهم بالبنان.
لا تكذبي
كان قلب كامل الشناوي السبب في شقائه وكان الحب سر حزنه... وبالرغم من أنه كان يتميز بروح ساخرة إلا أنه عاش أياما صعبة حينما عرف الحب طريقه إلى قلبه ... فقد وقع كامل الشناوي في غرام المطربة «نجاة الصغيرة» وكانت لاتزال مطربة ناشئة في ذلك الوقت .... وقام بتلميعها و تقديمها للوسط الفني .... ورعايتها حتى اشتهرت وأصبحت نجمة من نجوم الطرب... وفكر أن يبوح لها بحبه لكنه قبل أن يعلن حبه لها ... دعت أصدقاء لها من الوسط الفني لعيد ميلادها وفي الحفلة وقع نظر كامل الشناوي بالصدفة على نجاة مع نجم مشهور ... تألم كامل من هذا المنظر الذي لم يكن يتوقعه لكنه لم يفعل شيئا .... وانسحب من الحفل بهدوء دون أن يشعر به أحد وذهب إلى شقة صديقه الملحن بليغ حمدي.
جلس في شرفة الشقة وأمسك بورقة وقلم وكتب واحدة من أروع قصائده ... قصيدته الشهيرة «لا تكذبي»... التي يقول مطلعها «لا تكذبي إني رأيتكما معا ... ودعي البكاء فقد كرهت الأدمعا ... ما أهون الدمع الجسور إذا جرى من عين كاذبة فأنكر وادَّعى! ... إني رأيتكما ... إني سمعتكما ... عيناك في عينيه ... في شفتيه ... في كفيه ... في قدميه ويداك ضارعتان ترتعشان من لهف عليه ... تتحديان الشوق بالقبلات تلذعني بسوط من لهيب».
لم تكن نجاة تعلم بحب كامل لها وبالتالي لم تعرف أن هذه القصيدة مكتوبة لها ولم تعتذر له عن المشهد الذي رآه فيها .... ولكنه تخيل أنها فعلت ذلك .... حفاظا على كرامته ربما .... و تلقف الموسيقار عبدالوهاب الأغنية ولحنها وغناها على العود .... ثم استأذنت نجاة الصغيرة كامل الشناوي لغنائها !! فسمح لها .... ثم قام عبدالحليم حافظ بغناء الأغنية أيضا.
مفارقة غريبة
كان كامل الشناوي يعتقد أن حب المرأة سيمنحه الثقة بالنفس والطمأنينة والراحة، فإذا به يجد التعاسة والشقاء فكتب مقالة علق فيها على تلك الحالة الغريبة قال فيها «إن الإنسان الذي يكره يبدو هادئا مطمئنا صحيحا معافى من الأمراض والأسقام والتبعات... بينما الإنسان الذي يحب ولا يكره يبدو قلقا حائرا مريضا، مثقل الرأس بالهموم والأفكار».
فلماذا فضلنا الحب وقدسناه، لماذا لم نكره حتى نستطيع أن نحيا؟ لقد أهبت بأخي في الإنسانية أن يكره وقلت له: فتكلم وتألم وتعلم كيف تكره. فلعله يتعلم... حتى لا يعاني ما عانيت، أما أنا فلم أتعلم وأكبر الظن أني لن أتعلم».
55 عاما عاشها كامل الشناوي بين العذاب والحب والعطف على الناس وتقديم المواهب الجديدة ودفعها إلى الأمام... بل والدفع إليها بالأكل والشراب والمواصلات وتقديمها إلى مشاهير المجتمع حتى إن الكاتب الصحافي الكبير... محمود السعدني قال في حوار له مع جريدة الأهرام العربي « كامل بك هو الذي عرفني على عبد الوهاب وعلى مشاهير المجتمع».
وكان يقول عني في التعريف بي الأستاذ والصحافي الكبير ورغم أني كنت شابا صغيرا وكنت أصاب بالدهشة من تعريفه لي بهذه الطريقة.
ولم ينس كامل الشناوي لحظة واحدة من شقاوته في طفولته وشبابه، وكان كامل سمينا لدرجة أن والده ووالدته كانا يخفيانه عن عيون الجيران خوفا على ابنهما من الحسد.
التحق كامل بالمدرسة الابتدائية في المنصورة التي نقل إليها أبوه للعمل قاضيا بالمحكمة الشرعية، وفي العام الدراسي الثاني أصيب كامل بحمى جعلت والدته تتذكر نذرا لم تف به، فقد أعلنت أنه لو أكرمها الله بمولود ذكر ستبعث به إلى الأزهر ليكون عالما جليلا، ومنعه والده من المدرسة حين أخبرته الأم بالأمر، وجاء له بمعلم يحفظه القرآن ويؤهله للدراسة بالأزهر، وعندما انتقلت الأسرة إلى القاهرة كان عمر كامل الشناوي نحو 15 سنة فأُلحق بالأزهر وظل به خمس سنوات.
عقدة نفسية
ولعل إحساس كامل الشناوي... بأنه سمين وغير وسيم ظل معه لفترة طويلة من حياته حتى استطاع أن يعوض هذا بالاقتراب من الجميلات وتحقيق مجد صحافي وشهرة ومكانة عالية نادرا ما يرقى إليها أحد.
وبالرغم من إجادة كامل لعمل المقالب ضد إخوته إلا أنه كان حزينا من داخله بسبب ضخامة جسده يقول هو عن هذه الفترة: «كنت في طفولتي عندما أمشي في حيّ السيدة زينب يلتف حولي العيال ويزفوني: «التخين أهه... التخين أهه»... وكنت دائما أتجنب الزحام... عندما أفكر في شراء أي شيء، كنت أختار الدكان الذي لا يشتري منه أحد لشراء احتياجاتي... وكان لي في طفولتي أصدقاء منهم «فتحي رمضان وأحمد حسين وشرير الشاشة محمود المليجي...».
قصة حب فاشلة
من الوقائع التي ذكرها كامل الشناوي عن مرحلة صباه أنه وقع في غرام ابنة أخت مدرسه وكانت هذه الفتاة تعيش في ضاحية المعادي بالقاهرة وهي التي عرفته بالحياة وبجمالها وروعتها وقد حكى عن تلك التجربة في مقالاته قائلا: « ووجدت نفسي أنا الأزهري الذي نشأ في بيئة دينية أعيش بين أسرة عصرية تتعامل بعادات ومفاهيم مختلفة».
كنت أعرف أن الرجل إذا خلا بالمرأة فلابد أن يكون ثالثهما الشيطان... لكنني خلوت بحبيبتي ساكنة المعادي مرارا فلم أر فيها شيطانا... إنما لوحة رائعة أتذوق جمالها وأصونها وأحفظها... وقد استطاعت هذه الفتاة أن تحولني من شيخ إلى فتى عصري (سبور) خلع عن قلبه العمامة كما خلعها عن رأسه.
لكن قصة الحب هذه باءت بالفشل لأن كامل كان لا يزال في بداية حياته ولا يعمل ... وفي هذه الفترة تحديدا وجد نفسه تنساب شعرا ولم يصدق زملاؤه أنه شاعر... بل قالوا إن هذا الشعر يسرقه من شعراء كبار.
ويروي كامل أن المشرف على الصفحة الأدبية بالأهرام كان ممن يطربون للألفاظ الغريبة الميتة مثل: «كجلمود صخر حطه السيل من علٍ»... ولم يكن يستسيغ المعاني الجديدة، ولما رفض المشرف على الصفحة الأدبية نشر شعره حبك له كامل كعادته مقلبا وكتب له قصيدة تقول كلماتها:
سلاما صباحا لا يعم ولا يجري: ولا ألما بها نفسي ولا تدري
ووقع كامل القصيدة باسم أشهر الشعراء في وقتها ونشر صاحبنا القصيدة وكانت فضيحة مدوية.
بداية الشهرة
وفي عام 1930 فوجئ بنشر قصيدة له في مكان بارز من صحيفة «البلاغ» - حسب رواية يوسف الشريف - ولم تسعه الدنيا فرحا ومرحا وثقة بالنفس، لقد نال الشهادة الصحافية على شاعريته، وذهب لمقابلة الأستاذ إبراهيم المصري المشرف على الملحق الأدبي للبلاغ وقدم له نفسه وشكره، وإذا به يستقبله بالحفاوة والتقدير ويطلب له كوبا من الشاي.
وقال له: شوقي بك أمير الشعراء كان في زيارتي بالأمس، وأبلغني أنه قرأ قصيدتك وأعجب بها كثيرا وطلب مني أن أعرفه بصاحبها، ولم أكن أعرفك أو أعرف عنوانك.
لم يصدق كامل الشناوي أن أمير الشعراء يسأل عنه، ولكن إبراهيم المصري أكد له ذلك وأبلغه بالذهاب إلى بيته بالجيزة أو إلى مكتبه.
وحينما التقى شوقي بكامل للمرة الأولى قال له: عندما قرأت قصيدتك اعتقدت أنك شاعر نحل العشق جسده، ولكنك ما شاء الله ضخم جدا في حجم الفيل... وارتاح شوقي كثيرا لكامل فجعله يحضر صالونه الأدبي في «كرمة ابن هانئ»، وكان كامل يلقي قصائد شوقي بصوته وشوقي سعيد بهذا الإلقاء الرائع .
وعلق الكاتب الصحافي الكبير مصطفى أمين على الحب والغرام في حياة كامل الشناوي قائلا: «... برغم بدانته سريع التنقل، وخصوصا في حبه وهواه، وقلبه مثل برامج السينما التي تتغير كل أسبوع أو كل رواية تعرض على شاشة قلبه هي «تحفة الموسم» وهي «آخر صيحة» وهي «أقوى ما عرض حتى الآن» فإذا انتهى عرض الفيلم ارتدى نفس الثوب وتحلى بنفس الأوسمة والنياشين! وفي الفترة التي يحب فيها كامل الشناوي يصف المحبوبة بكل الأوصاف الحلوة والنعوت الجديدة... وهكذا ترى أن قلب كامل الشناوي مثل جمهوريات أميركا الجنوبية، مليئة بالانقلابات والثورات والتغيرات والتبديلات».
مملكة منفردة
أما مأمون الشناوي فهو أحد أبرز شعراء الأغنية في مصر وكان بمثابة مملكة متكاملة بمفرده حين يكتب، واستطاع أن يرضي جميع الأذواق بقلمه... ومن أشهر الأغنيات التي كتبها مأمون الشناوي وغنتها كوكب الشرق أم كلثوم أغنية «أنساك».
وقد كان الشاعر الراحل مأمون الشناوي يتحمس للمطربين والموسيقيين الجدد، ويساعد في تقديمهم إلى الساحة الفنية، ويكتب لهم خصيصا أبدع الكلمات. وقد كتب لعزيزة جلال: «بتخاصمني حبّة وتصالحني حبّة».
كما أنه كان يمر على الصحافيين والكُتَّاب والنقاد - في السبعينات من القرن الماضي - لكي يسمعوا صوت المطرب الشاب الصاعد آنذاك هاني شاكر وكان يتولاه بالتشجيع والدعاية له في كل مكان.
كما كان مأمون الشناوي - قبل ذلك - يأخذ الموسيقار سيد مكاوي من يده إلى كل الجلسات الصحافية والوزارية حتى صار مكاوي علما في مجال التلحين والغناء في مصر والعالم العربي.
كانت الأغاني التي يكتبها مأمون خفيفة الظل بسيطة سلسة، تدخل الوجدان وتمس المشاعر والأحاسيس بسهولة، بالإضافة إلى أنها متنوعة، فقد لا يصدق البعض أن مأمون الشناوي وهو الذي ألف أغاني «بعيد عنك»، و«دارت الأيام» لأم كلثوم و«الربيع» و«يا زهرة في خيالي» لفريد الأطرش، هو نفسه مؤلف أغنية «كراكشنجي دبح كبشه» للمطرب الشعبي أحمد عدوية .
وهذا هو التنوع الذي عرف به مأمون الشناوي وتميز به في عصره الذي كان ممتلئا بفطاحل الشعر والزجل آنذاك ... ومن الأغاني التي كتبها مأمون «أنا لك على طول» التي غناها العندليب عبدالحليم حافظ و«دارت الأيام» و«كفاية نورك عليا».
رحم الله الشقيقين بقدر ما قدما لنا من إبداعات راقية وخالدة.
أي أسرة في أي مكان... تجتاحها السعادة، عندما يحقق أحد أفرادها نجاحا، يجلب عليه الشهرة، ويضعه تحت الأضواء، نجما متوهجا، يشار إليه بالبنان في مجاله أو مجتمعه وحتى خارجه، وتتهافت على نشر أخباره الصحف والمجلات، ومن ثمَّ يكون مثار فخر لها واعتزازا ليس لأسرته أو مجتمعه الصغير وفقط، ولكن قد يكون لدولته وأمته.
ولكن تلك السعادة سوف تتضاعف... عندما ينجح شقيقان، ويتألقان في مجال عملهما، ويغدوان نجمين في سماء الشهرة والذيوع، وهناك نماذج عربية وغربية من هنا أو من هناك. حققت تلك المعادلة الصعبة، تغلبت على العقبات، وحفرت في الصخر، ووصلت إلى قمة النجومية، وذروة التوهج، حتى انها ظلت باقية في الذاكرة، بالرغم من مرور عقود عدة على رحيلها.
النماذج التي نرصدها لأشقاء أو إخوة مشاهير، تتوزع بين العلم والسياسة والرياضة، والفن، ويجسد كل نموذج منها نبراسا للتحدي والإصرار على النجاح والتميز، ولاسيما أن معظم تلك النماذج، ولدت في أجواء صعبة لا تعرف رفاهية العيش، ولا لذة الحياة، وهو ما دفعها في البداية إلى تحقيق المستحيل، ثم ضاعف سعادتها، عندما وصلت إلى ما وصلت إليه.
ونعرض في تلك الحلقات لأشهر الأشقاء والإخوة... الذين حققوا الشهرة سواء في مجال واحد، أو مجالين مختلفين، فهناك من تألق فنيا «الأخوان رحباني» و«الشقيقان الأطرش»، وهناك من توهج رياضيا مثل «التوأم حسن».
كما أن هناك أشقاء... شقَّ كل منهم طريقه في الحياة في مجال مختلف، ووصل إلى قمة النجاح والتألق «الشقيقان الباز مثال حي»، كما نرصد بدايات كل منهما، وكيف كانت دافعا لهما للإبحار ضد الصعاب والعقبات وتجاوزها، وتحقيق النجاح والشهرة والخلود في ذاكرة البشر، باعتبارهما دليلا حيا على الإصرار والتحدي.
وفي السطور حكايات... تعرفنا عليها... ومواقف توقفنا عندها... وصور نادرة تحكي مسيرة الأشقاء.
شكّل الشقيقان الشاعران المصريان كامل ومأمون الشناوي... ظاهرة فنية فريدة، وطاقة إبداعية لم تنفد بالرغم من رحيلهما، إذ لاتزال إبداعاتهما باقية، في ذاكرة الوجدان العربي حتى الآن.
في بداية القرن الماضي وتحديدا في شهر ديسمبر من العام 1908 ولد الشاعر والصحافي الكبير كامل الشناوي في إحدى قرى مركز «أجا» بمحافظة الدقهلية «شمال دلتا مصر» ... وبعده بـ 6 سنوات تقريبا ولد شقيقه مأمون الشناوي الذي يعتبر واحدا من أهم وأبرز شعراء الأغنية في مصر... من جيل العمالقة الذين أثروا المكتبة الموسيقية بالعديد من الأغنيات الرائعة ... ويعود الفضل لـ «مأمون» في إعادة صياغة أغاني الفلاحين والأغنيات الشعبية الفلكلورية المصرية.
وقد ساهم كامل ومأمون الشناوي في إنعاش الحركة الفنية في منتصف القرن الماضي بأعمالهما التي ستظل محفورة في تاريخ الفن المصري... لأنهما وبحق كانا من المبدعين القلائل الذين شاركوا في جميع الأحداث التي مرت بها مصر عبر تاريخها الحديث.
النشأة الريفية
كان والدهما قاضيا شرعيـا لمحكمة مركز أجا ... وظل قاضيا لهذه المحكمة لفترة طويلة ... وكان يحرص على تعليم أبنائه وإعداهم بالشكل الأمثل للحياة العملية ... قرر أن يلحق الابن الأكبر كامل بالأزهر الشريف لدراسة العلوم الشرعية ... وكان يتمنى أن ينجح كامل في دراسته ليكمل مشواره في القضاء ... لكن الابن لم ترق له الدراسة في الأزهر ولم يستمر فيه أكثر من 5 سنوات ... ترك بعدها الدراسة الأزهرية وعمد إلى مطالعة الكتب في شتى المجالات.
وكان يحرص على حضور مجالس الأدباء لينهل من معينهم الأمر الذي ساهم في تكوينه الثقافي وأضاف إليه العديد من النواحي الأدبية خصوصا وأنه درس في هذه المرحلة الآداب العربية و الأجنبية في عصورها المختلفة ... ما مكنه فيما بعد من إخراج العديد من المؤلفات ومنها «اعترافات أبي نواس» و«أوبريت جميلة» و«الليل و الحب والموت»، بالإضافه لآخر أعماله أوبريت «أبو نواس».
موهبة مشتركة
كان كامل ومأمون الشناوي يحرصان على اكتشاف النجوم الجديدة وتقديمها للجمهور المصري والعربي ... وكانا لا يتحرجان من الكتابة للفنانين الذين يبدأون مشوارهم الفني أو الذين لايملكون أي رصيد فني بالرغم من تحذيرهم من الفشل ... كانا يعتبران مساعدة هؤلاء واجبا فنيا ووطنيا في المقام الأول... ومن ثم فإن المغامرة معهم تستحق التضحية.
بالرغم من أن كامل ومأمون كانا يشتركان في موهبة كتابة الشعر إلا أن تركيز الأول كان منصبا بشكل أكبر على العمل في الصحافة وبدأ مشواره في بلاط صاحبة الجلالة بالعمل في «جريدة الوادي» عام 1930 مع عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين ... ومنذ خطواته الأولى في الصحافة نجح كامل الشناوي في لفت الأنظار إلى موهبته وأثنى عليه كبار الصحافيين وبمرور الوقت أصبح واحدا من أفضل الصحافيين الذين يشار إليهم بالبنان.
لا تكذبي
كان قلب كامل الشناوي السبب في شقائه وكان الحب سر حزنه... وبالرغم من أنه كان يتميز بروح ساخرة إلا أنه عاش أياما صعبة حينما عرف الحب طريقه إلى قلبه ... فقد وقع كامل الشناوي في غرام المطربة «نجاة الصغيرة» وكانت لاتزال مطربة ناشئة في ذلك الوقت .... وقام بتلميعها و تقديمها للوسط الفني .... ورعايتها حتى اشتهرت وأصبحت نجمة من نجوم الطرب... وفكر أن يبوح لها بحبه لكنه قبل أن يعلن حبه لها ... دعت أصدقاء لها من الوسط الفني لعيد ميلادها وفي الحفلة وقع نظر كامل الشناوي بالصدفة على نجاة مع نجم مشهور ... تألم كامل من هذا المنظر الذي لم يكن يتوقعه لكنه لم يفعل شيئا .... وانسحب من الحفل بهدوء دون أن يشعر به أحد وذهب إلى شقة صديقه الملحن بليغ حمدي.
جلس في شرفة الشقة وأمسك بورقة وقلم وكتب واحدة من أروع قصائده ... قصيدته الشهيرة «لا تكذبي»... التي يقول مطلعها «لا تكذبي إني رأيتكما معا ... ودعي البكاء فقد كرهت الأدمعا ... ما أهون الدمع الجسور إذا جرى من عين كاذبة فأنكر وادَّعى! ... إني رأيتكما ... إني سمعتكما ... عيناك في عينيه ... في شفتيه ... في كفيه ... في قدميه ويداك ضارعتان ترتعشان من لهف عليه ... تتحديان الشوق بالقبلات تلذعني بسوط من لهيب».
لم تكن نجاة تعلم بحب كامل لها وبالتالي لم تعرف أن هذه القصيدة مكتوبة لها ولم تعتذر له عن المشهد الذي رآه فيها .... ولكنه تخيل أنها فعلت ذلك .... حفاظا على كرامته ربما .... و تلقف الموسيقار عبدالوهاب الأغنية ولحنها وغناها على العود .... ثم استأذنت نجاة الصغيرة كامل الشناوي لغنائها !! فسمح لها .... ثم قام عبدالحليم حافظ بغناء الأغنية أيضا.
مفارقة غريبة
كان كامل الشناوي يعتقد أن حب المرأة سيمنحه الثقة بالنفس والطمأنينة والراحة، فإذا به يجد التعاسة والشقاء فكتب مقالة علق فيها على تلك الحالة الغريبة قال فيها «إن الإنسان الذي يكره يبدو هادئا مطمئنا صحيحا معافى من الأمراض والأسقام والتبعات... بينما الإنسان الذي يحب ولا يكره يبدو قلقا حائرا مريضا، مثقل الرأس بالهموم والأفكار».
فلماذا فضلنا الحب وقدسناه، لماذا لم نكره حتى نستطيع أن نحيا؟ لقد أهبت بأخي في الإنسانية أن يكره وقلت له: فتكلم وتألم وتعلم كيف تكره. فلعله يتعلم... حتى لا يعاني ما عانيت، أما أنا فلم أتعلم وأكبر الظن أني لن أتعلم».
55 عاما عاشها كامل الشناوي بين العذاب والحب والعطف على الناس وتقديم المواهب الجديدة ودفعها إلى الأمام... بل والدفع إليها بالأكل والشراب والمواصلات وتقديمها إلى مشاهير المجتمع حتى إن الكاتب الصحافي الكبير... محمود السعدني قال في حوار له مع جريدة الأهرام العربي « كامل بك هو الذي عرفني على عبد الوهاب وعلى مشاهير المجتمع».
وكان يقول عني في التعريف بي الأستاذ والصحافي الكبير ورغم أني كنت شابا صغيرا وكنت أصاب بالدهشة من تعريفه لي بهذه الطريقة.
ولم ينس كامل الشناوي لحظة واحدة من شقاوته في طفولته وشبابه، وكان كامل سمينا لدرجة أن والده ووالدته كانا يخفيانه عن عيون الجيران خوفا على ابنهما من الحسد.
التحق كامل بالمدرسة الابتدائية في المنصورة التي نقل إليها أبوه للعمل قاضيا بالمحكمة الشرعية، وفي العام الدراسي الثاني أصيب كامل بحمى جعلت والدته تتذكر نذرا لم تف به، فقد أعلنت أنه لو أكرمها الله بمولود ذكر ستبعث به إلى الأزهر ليكون عالما جليلا، ومنعه والده من المدرسة حين أخبرته الأم بالأمر، وجاء له بمعلم يحفظه القرآن ويؤهله للدراسة بالأزهر، وعندما انتقلت الأسرة إلى القاهرة كان عمر كامل الشناوي نحو 15 سنة فأُلحق بالأزهر وظل به خمس سنوات.
عقدة نفسية
ولعل إحساس كامل الشناوي... بأنه سمين وغير وسيم ظل معه لفترة طويلة من حياته حتى استطاع أن يعوض هذا بالاقتراب من الجميلات وتحقيق مجد صحافي وشهرة ومكانة عالية نادرا ما يرقى إليها أحد.
وبالرغم من إجادة كامل لعمل المقالب ضد إخوته إلا أنه كان حزينا من داخله بسبب ضخامة جسده يقول هو عن هذه الفترة: «كنت في طفولتي عندما أمشي في حيّ السيدة زينب يلتف حولي العيال ويزفوني: «التخين أهه... التخين أهه»... وكنت دائما أتجنب الزحام... عندما أفكر في شراء أي شيء، كنت أختار الدكان الذي لا يشتري منه أحد لشراء احتياجاتي... وكان لي في طفولتي أصدقاء منهم «فتحي رمضان وأحمد حسين وشرير الشاشة محمود المليجي...».
قصة حب فاشلة
من الوقائع التي ذكرها كامل الشناوي عن مرحلة صباه أنه وقع في غرام ابنة أخت مدرسه وكانت هذه الفتاة تعيش في ضاحية المعادي بالقاهرة وهي التي عرفته بالحياة وبجمالها وروعتها وقد حكى عن تلك التجربة في مقالاته قائلا: « ووجدت نفسي أنا الأزهري الذي نشأ في بيئة دينية أعيش بين أسرة عصرية تتعامل بعادات ومفاهيم مختلفة».
كنت أعرف أن الرجل إذا خلا بالمرأة فلابد أن يكون ثالثهما الشيطان... لكنني خلوت بحبيبتي ساكنة المعادي مرارا فلم أر فيها شيطانا... إنما لوحة رائعة أتذوق جمالها وأصونها وأحفظها... وقد استطاعت هذه الفتاة أن تحولني من شيخ إلى فتى عصري (سبور) خلع عن قلبه العمامة كما خلعها عن رأسه.
لكن قصة الحب هذه باءت بالفشل لأن كامل كان لا يزال في بداية حياته ولا يعمل ... وفي هذه الفترة تحديدا وجد نفسه تنساب شعرا ولم يصدق زملاؤه أنه شاعر... بل قالوا إن هذا الشعر يسرقه من شعراء كبار.
ويروي كامل أن المشرف على الصفحة الأدبية بالأهرام كان ممن يطربون للألفاظ الغريبة الميتة مثل: «كجلمود صخر حطه السيل من علٍ»... ولم يكن يستسيغ المعاني الجديدة، ولما رفض المشرف على الصفحة الأدبية نشر شعره حبك له كامل كعادته مقلبا وكتب له قصيدة تقول كلماتها:
سلاما صباحا لا يعم ولا يجري: ولا ألما بها نفسي ولا تدري
ووقع كامل القصيدة باسم أشهر الشعراء في وقتها ونشر صاحبنا القصيدة وكانت فضيحة مدوية.
بداية الشهرة
وفي عام 1930 فوجئ بنشر قصيدة له في مكان بارز من صحيفة «البلاغ» - حسب رواية يوسف الشريف - ولم تسعه الدنيا فرحا ومرحا وثقة بالنفس، لقد نال الشهادة الصحافية على شاعريته، وذهب لمقابلة الأستاذ إبراهيم المصري المشرف على الملحق الأدبي للبلاغ وقدم له نفسه وشكره، وإذا به يستقبله بالحفاوة والتقدير ويطلب له كوبا من الشاي.
وقال له: شوقي بك أمير الشعراء كان في زيارتي بالأمس، وأبلغني أنه قرأ قصيدتك وأعجب بها كثيرا وطلب مني أن أعرفه بصاحبها، ولم أكن أعرفك أو أعرف عنوانك.
لم يصدق كامل الشناوي أن أمير الشعراء يسأل عنه، ولكن إبراهيم المصري أكد له ذلك وأبلغه بالذهاب إلى بيته بالجيزة أو إلى مكتبه.
وحينما التقى شوقي بكامل للمرة الأولى قال له: عندما قرأت قصيدتك اعتقدت أنك شاعر نحل العشق جسده، ولكنك ما شاء الله ضخم جدا في حجم الفيل... وارتاح شوقي كثيرا لكامل فجعله يحضر صالونه الأدبي في «كرمة ابن هانئ»، وكان كامل يلقي قصائد شوقي بصوته وشوقي سعيد بهذا الإلقاء الرائع .
وعلق الكاتب الصحافي الكبير مصطفى أمين على الحب والغرام في حياة كامل الشناوي قائلا: «... برغم بدانته سريع التنقل، وخصوصا في حبه وهواه، وقلبه مثل برامج السينما التي تتغير كل أسبوع أو كل رواية تعرض على شاشة قلبه هي «تحفة الموسم» وهي «آخر صيحة» وهي «أقوى ما عرض حتى الآن» فإذا انتهى عرض الفيلم ارتدى نفس الثوب وتحلى بنفس الأوسمة والنياشين! وفي الفترة التي يحب فيها كامل الشناوي يصف المحبوبة بكل الأوصاف الحلوة والنعوت الجديدة... وهكذا ترى أن قلب كامل الشناوي مثل جمهوريات أميركا الجنوبية، مليئة بالانقلابات والثورات والتغيرات والتبديلات».
مملكة منفردة
أما مأمون الشناوي فهو أحد أبرز شعراء الأغنية في مصر وكان بمثابة مملكة متكاملة بمفرده حين يكتب، واستطاع أن يرضي جميع الأذواق بقلمه... ومن أشهر الأغنيات التي كتبها مأمون الشناوي وغنتها كوكب الشرق أم كلثوم أغنية «أنساك».
وقد كان الشاعر الراحل مأمون الشناوي يتحمس للمطربين والموسيقيين الجدد، ويساعد في تقديمهم إلى الساحة الفنية، ويكتب لهم خصيصا أبدع الكلمات. وقد كتب لعزيزة جلال: «بتخاصمني حبّة وتصالحني حبّة».
كما أنه كان يمر على الصحافيين والكُتَّاب والنقاد - في السبعينات من القرن الماضي - لكي يسمعوا صوت المطرب الشاب الصاعد آنذاك هاني شاكر وكان يتولاه بالتشجيع والدعاية له في كل مكان.
كما كان مأمون الشناوي - قبل ذلك - يأخذ الموسيقار سيد مكاوي من يده إلى كل الجلسات الصحافية والوزارية حتى صار مكاوي علما في مجال التلحين والغناء في مصر والعالم العربي.
كانت الأغاني التي يكتبها مأمون خفيفة الظل بسيطة سلسة، تدخل الوجدان وتمس المشاعر والأحاسيس بسهولة، بالإضافة إلى أنها متنوعة، فقد لا يصدق البعض أن مأمون الشناوي وهو الذي ألف أغاني «بعيد عنك»، و«دارت الأيام» لأم كلثوم و«الربيع» و«يا زهرة في خيالي» لفريد الأطرش، هو نفسه مؤلف أغنية «كراكشنجي دبح كبشه» للمطرب الشعبي أحمد عدوية .
وهذا هو التنوع الذي عرف به مأمون الشناوي وتميز به في عصره الذي كان ممتلئا بفطاحل الشعر والزجل آنذاك ... ومن الأغاني التي كتبها مأمون «أنا لك على طول» التي غناها العندليب عبدالحليم حافظ و«دارت الأيام» و«كفاية نورك عليا».
رحم الله الشقيقين بقدر ما قدما لنا من إبداعات راقية وخالدة.