المحاسبة والرقابة صفة لصيقة بتحقيق العدل في أي مكان وزمان، وقد عرفت البشرية الظلم عندما تغيب الرقابة والمحاسبة، لذلك نجد في التاريخ البشري صوراً متعددة لتفعيل الرقابة والمحاسبة.
وعرف المسلمون العدل عندما كان ميزان المحاسبة يعمل بدقة متناهية، فقد قال رسول الله «صلى الله عليه وسلم» عندما أراد بعض المسلمين أن تضيع دقة المحاسبة في العدل في حد من حدود الله: «إنما أهلك من كان قبلكم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد»، ثم بكل حسم في العدل يقول الرسول: «والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لأقمت عليها الحد».
وبالرجوع إلى واقعة أحداث رفح في 14 أغسطس، والتي قُتل فيها ما يزيد على عشرين وجرح ما يزيد على مئة في اشتباكات بين سلطة «حماس» وجماعة «أنصار جند الله»، نجد أن سلطة «حماس» ضربت بكل الانتقادات والتعليقات المطالبة بالتحقيق عُرض الحائط، بل أصدرت بياناً يشبه بيانات النظم المستبدة. وكأنه لم تستبح دماء مسلمة، ولم يهدم مسجد، ولم يصب أحد، وكأن العصمة بيدها تفعل ما تشاء، فقد جاء في بيان «حماس» -في 16 أغسطس - الآتي: «نؤكد على أن الذي يستحل دماء الأبرياء من دون ذنب لا يختلف عن الاحتلال الذي يستحل دماء أطفالنا وشبابنا وشيوخنا، وليس منا من يفجّر الأفراح، أو بيوت العلماء، أو المدارس، وعليه أن يلقى جزاءه العادل»، ومن الواضح من البيان أن سلطة «حماس» جعلت من نفسها التحقيق والقضاء وقد حكمت وانتهى الأمر.
وقد توافقت آراء قادة «حماس» على هذا النص، وأخرجوه مخرجاً شرعياً اتهم القتلى بأنهم بغاة، كما جاء على لسان إسماعيل هنية عقب الحادث، رغم من أنه من داخل فلسطين مَنْ يناقض بيانات «حماس»، فقد جاء في بيان «لجان المقاومة الشعبية» -في 15 أغسطس - الآتي «على الرغم مما أبدته «حركة حماس» من تجاوب في بادئ الأمر معنا كوسطاء لحل الأزمة إلا أننا نعتقد أنه كان بالإمكان اعطاء الوسطاء فرصة أكبر حتى لا تنزف وتسفك هذه الدماء المسلمة».
لكن الأخطر كما ذكرت أنه رغم مناشدة الكثيرين في العالم العربي والإسلامي التحقيق في ما حدث إلا أن سلطة «حماس» كأن الأمر لا يعنيها، فلم تحدثنا عن:
تحقيق قضائي في ما حدث. سؤال الشهود، وما هي أقوالهم. معاينة مكان الحادث. ماهية الأسلحة المستخدمة في الواقعة كلها.
ومن تسبب في قتل من وقتل بسلاحه. أسباب الإصابات. ماهية الأسلحة المستخدمة في القتل والإصابات بالتحديد. ومن يملك تلك الأسلحة. ومن ضبطت بحيازته. وما السلاح الذي تسبب في هدم المسجد، ومن المسؤول عن ذلك. وكل تلك الأسئلة كان مفروضاً على «حماس» الإجابة عنها لأنها حركة إسلامية نهضوية تحمل مشروعاً إسلامياً متكاملاً مقاوماً.
وقد تكرر هذا الأسلوب من سلطة «حماس» مع «جماعة جيش الإسلام» وغيرها من قبل، ومن المفترض فيها أنها حركة إسلامية تحقق العدل وتخاف الله، فماذا تقول أمام الله في استباحة دماء مسلمين حرمة دمائهم أشد من حرمة المسجد الحرام؟
هل تكتفي بفتوى الشيخ القرضاوي في نقابة الصحافيين المصرية التي تحدث فيها في ندوة عن العدل والاستبداد ثم عندما سئل عما حدث في رفح أجاز الاستبداد لمصلحة «حماس» من دون أن يسأل عن تحقيق العدل في الحادثة؟
ورغم أن كثيراً من الفلسطينيين من داخل رفح نفسها تذمروا مما حدث، ويحضرني مقال للكاتب الفلسطيني يوسف العاصي من رفح، وهو غير منتمٍ لأي جماعة مطلقاً كما ذكر، نشره عقب الحادث بعنوان «دموع حائرة وحزن مغتصب في رفح»، جاء في مقاله هذا النص: «فقد صدمت كما صدم غيري لما آلت إليه الأحداث من مقتل هذا العدد الكبير من الأبرياء وبهذه السرعة المستغربة ومن دون إعطاء الحوار والجدل بالحسنى أي فرصة، وأستطيع أن أزعم أن هذه المجزرة البشعة سجلت رقماً قياسياً من حيث عدد الضحايا والمصابين الذين سقطوا في فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز 12 ساعة، سمعنا خلالها القصف والتفجير وإطلاق النار الكثيف على مجموعة صغيرة متحصنة في مسجد للعبادة، حيث تحولت مدينة رفح إلى ساحة حرب خلال لحظات ومن دون سابق إنذار».
وفي مقال مهم أيضاً للكاتب الأميركي توني كارون في مجلة «التايم» في 21 أغسطس بعنوان: «ما وراء حرب «حماس» الخاصة على الإرهاب» قال: «إن القمع القوي لـ «جند أنصار الله» يرسل رسالتين توكيديتين من «حماس»: واحدة للمنافسين المحتملين، وأخرى للمحاورين المحتملين. إن سرعة وعنف القمع الذي ووجهت به المجموعة هو تحذير لجميع المنافسين المحتملين بأن «حماس» لن تتسامح مع أي تحدٍ لسلطتها في غزة. وهي إشارة أيضاً إلى أنه مادامت «حماس» تحافظ على الهدنة مع إسرائيل، فإنها مستعدة وقادرة على منع الآخرين في القطاع من شن الهجمات على إسرائيل».
الحقيقة أنني رغم أني كتبت مقالات كثيرة مؤيداً لـ «حماس» ولاأزال في مقاومتها للاحتلال إلا أن ما حدث من مجزرة رهيبة في رفح، ثم تقاعس سلطة «حماس» عن التحقيق القضائي وإعلانه للناس، بل محاولتها تغييب الوعي عن طريق شرعنة الاستبداد بفتاوى المؤيدين لها واستغلال حالة التعاطف مع الحركة، كشف أمراً خطيراً في تحول بعض الإسلاميين لمستبدين أمام مخالفيهم اذا تمكنوا من سلطة ما تحت غطاء المصلحة، ولا يعني هذا أبدا موافقتي الشخصية عما حدث ممن يسمون «أنصار جند الله» ولكني أهتم بالبحث عن العدل مع الناس جميعاً حتى المخالفين وهو ما ينبغي على بعض الإسلاميين فهمه واستيعابه والعمل به.
وإني أتساءل: أين هي الجهة التي تحاسب سلطة «حماس»، وتراقب أعمالها التنفيذية؟ لم نسمع عن آلية في غزة تفعل ذلك، فالبرلمان الفلسطيني معطل بسبب سجن أعضائه لدى الاحتلال وانقسام أعضائه الباقين ما بين غزة ورام الله، فمن يحاسب، لابد من محاسبة إسماعيل هنية كمسؤول سياسي ومحاسبة أجهزة الشرطة ومن عاونها في أحداث رفح.
فـ «حركة حماس» حتى ولو كانت هي صاحبة الفضل الكبير في التضحيات من أجل فلسطين فذلك لا يعطيها عصمة مطلقة، ولايعني وجود المحتل وتداعيات الاحتلال أن تبطش وتستبد «حماس» من أجل ماتراه مصلحة عليا فلن تنصر «حماس» ولن ينصر الأقصى إلا بالعدل وإذا ضاع وغُيب العدل ضاع النصر وتأخر.
ممدوح إسماعيل
محامٍ وكاتب
[email protected]