العشق أكثر وضوحا، واكثر تجليا، عندما لا نتكلم عنه، ولانصرح به، ولا نكتبه شعرا، فالهوى يهوى الى اسفل الدركات كلما لاكته الالسن، ولولا ما في قلبي من غصة لما قلت شعرا، واعلم انك ادركت قول المعري «لولا دموعي كتمت الهوى، ولولا الهوى لم يكن لي دموع»!
هذا ما قاله لي قيس ابن ذريح، وهو جالس على تلة في احدى الجنان، ولو انه استمر في قول العشق لكان لقاء جميلا، الا ان الحديث انتقل الى مزالق لم أتوقعها، عندما اخطأت في حديثي معه، وقلت له «قل لي يا ابن الملوح»، بدلا من ابن ذريح، زل لساني باسم «الملوح»، واذ به ينتفض كالقط الوحشي، قائلا بانه ابن ذريح، طلبت ان يعذرني على تشابه الاسماء، وهما عاشقان!
فرد علي وقال: اسمعني ايها الضيف القادم من بلاد الرمال، اولا انا اسمي قيس وحبيبتي وزوجتى لبنى، التي طلقتها وليتني ما فعلت، وذاك اسمه قيس وحبيبته ليلى! وكلانا عاشق ونقول الشعر! وكلانا من جزيرة العرب! وعشنا في فترة واحدة، وانا سبقته بعشر من السنوات، وكلانا عاش نفس التجربة تقريبا وعانى من نفس الحالة تقريبا!
• الى اين تريد الوصول؟
- سأقول لك، لابد ان هناك خطأ ما، مؤامرة ما!
• مؤامرة! قلتها مستغربا!
- قال وكأنه مستعد لالقاء محاضرة: اولا انا حقيقي وهو وهمي، انا اتباع الهاشميين، وهو تابعيته اموية، وبمفهوم زمانكم، انا قيس الشيعي وهو قيس السني، وقيس ابن الملوح اختراع استخباراتي أموي، ومؤامرة من الحكومة لطمس العاشق الشيعي من خلال تأليف شخصية وهمية باسم قيس ليلى، انها مؤامرة الا تفهم!... كان متحمسا في الكلام ومصرا على اقواله، وانا ذهب بي الخيال بعيدا، الى بلادي!
وكلمت نفسي بنفسي مرددا، اردت ان استمتع بأشعار قيس، وهو يتغزل بليلى، عفوا بلبنى، واذا به يدخلني في مغارة طالما دخلنا فيها ولم نخرج! مغارة السنة والشيعة التي مازلنا نسير فيها منتظرين نهاية النفق، ولا نهاية له!
ثم قلت له: يا بن ذريح عذرا، انت عاشق، والعاشق لا يشغله سوى عيني حبيبته وجمالها، هل حقا «لبنى» بهذا الجمال؟
صمت قليلا وتذكر وجه لبنى وقال: نعم لو كنت تملك عيني، لكانت لبنى اجمل نساء الكون!
• اردت ان اغير مجرى الحديث فقلت له: حدثني عن جمالها!
الا انه اكمل حديثه، قائلا: بل احدثك عن ابن الملوح، لماذا يشتهر اكثر مني وانا خير منه؟ لماذا لا تتحدثون عن لبنى بدلا من ليلى؟ انها مؤامرة على عشقنا، وانت جزء من المؤامرة!
جلست افكر: نفس القصة بملابس مختلفة، نفس الفيلم القديم بتصوير واخراج جديد، نفس المشاكل ولكن بنكهة مختلفة، وكأن الله لم يخلق في المجرات كلها سوى فرقتين سنة وشيعة!
السنة عندهم مشكلة مع عبد الله بن سبأ، ابن اليهودية السوداء، صحيح، لماذا دائما المجرم والمغضوب عليه في التاريخ الاسلامي تصبح امه يهودية او مجوسية فقط! لماذ لم يضعوا نصرانية مثلا؟ لا اعرف! وليس مهما، المهم ان ابن سبأ هذا هو سبب البلاء، وهو الذي يتآمر على الاسلام حتى الآن، رغم موته قبل الف واربعمئة سنة، فهو الذي قاد الفتن، وأظهر البدع، وقتل المؤمنين، وغلا في الدين، وتآمر على المسلمين... «كله بروحه»، حتى الان، ومازال وسيظل لألف سنة قادمة يتآمر، هناك مليار مسلم وملايين الكتب الدينية، ومع ذلك، شخص واحد، ابن يهودية، يشكل خطرا على الدين والشريعة!
والشيعة، عندهم قصة «السقيفة» فهي محور التاريخ ومنه بدأ واليه ينتهي، والسقيفة سبب بلائنا، ومشاكلنا، وفتننا، من وفاة الرسول الى مليون سنة قادمة، مع كل فتنة، يتنادى القوم رافعين شعارات انها سقيفة اخرى، او انه ابن سبأ آخر!
والمستفيد في كل فتنة من يشعلها، ويثيرها، ويبيعها، ويشتريها ويثري من ورائها... فلا مثير لها الا تاجر دين ودنيا!
رجعت من خيالي الى حلمي، وقيس مستمر في اثبات انه العاشق الاصلي، وان الملوح تقليد صيني !
فقلت له: يا ابن ذريح انا في حلم وانت تعيدني الى هم الواقع!
فقال «واني لا هوى النوم في غير حينه، لعل لقاء في المنام يكون».
قلت له: جميل يا قيس، لنعيش في الحلم!
قال: يا سيدي الضيف القادم من دار العاشقين «تحدثني الاحلام اني اراكم، فياليت احلام المنام يقين» وتعلم ان الاحلام مجرد احلام فلا تفرح كثيرا، وستعود وستتذكر حديثي، انك تحلم، فقل لهم انني قيس الاصلي وانني من «الجماعة»!
ضحكت كمدا، وقلت لذاتي الضائعة في الجنان، يبدو انه سيأتي زمان على هذه الامة سيشجع السنة قيس وليلى، والشيعة قيس ولبنى... ثم بكيت ضحكا مرددا مع المتنبي «وكم في مصر والعراق والجزيرة والشام وما وراء النهرين- من مضحكات، لكن مضحكات كالبكا»!
تركنا بن ذريح... ورحلنا... غدا نكمل!
جعفر رجب
[email protected]