نادين البدير / من الجنة

تصغير
تكبير
|نادين البدير|
للغابة مطار يتوسط بستانا، تخرج منه فتصادفك عبارة ترحيبية ( أهلا بكم في الجنة).
بين مطار العاصمة وقرية كاندالاما حوالي ثلاث ساعات، تمر خلالها بخضرة محتشدة لا تنتهي عبر طريق ضيق مخنوق، تشاهد على ضفتيه ملخصا لكل ما على الجزيرة، بائعون، فتيات بعمر الورود بشعر طويل، عجائز، يسيرون ضمن مجموعات. عربات تاكسي بثلاث عجلات، كلاب ضالة، حقول جوز الهند والأناناس والأرز والدخان. ومنازل خشبية رائعة متناثرة بين الأشجار لها بوابة رئيسية وليس لها أسوار فحديقتها الغابة بأكملها.

فوق تلة تطل على بحيرة، حصل الفندق على إذن من الطبيعة لبناء طوابقه القليلة. البحيرة تحفها الأشجار والفيلة والقرود ومختلف أنواع الزواحف وأشهر الأفاعي. هكذا تلتف الغابة حول كل مياه وبناء وتتمادى بالالتفاف لتحيط بجزيرة سريلانكا وصولاً لحدودها المائية.
ليس للفندق جدران كاملة. فالمبنى الدخيل على الحديقة الإلهية لن يجرؤ على بناء ما يعكر صفو الحرية، وحدها الغرف لها أبواب وجدران زجاجية تطل على البحيرة. تبدو الغرف وكأنها معلقة بين الأغصان، ويمكنك رؤية صخور ضخمة وجذور أشجار طويلة مكشوفة متدلية ومتعانقة تتجه لتغرس في التربة أمام غرفتك دون فاصل عنها. وفي المساء ستحاول جاهدا رؤية ما يحدث في العتمة فالأنوار غير ساطعة.
في الليلة الأولى: إحدى الزواحف تسير بالممر. فكرت بالعودة إلى المطار. ماذا يجبرني على الابتعاد عن الحضارة والمجيء إلى غابة مخيفة؟ أغلقت الشرفة جيداً.
إنه لمن المخجل التصريح عن بغضك للزواحف التي تتنزه في الفندق. مثلما فعلت. تذكر أنك الزائر في موطنها لا العكس. أن تعيش مع الطبيعة يعني أن تتصالح مع الطبيعة أولاً قبل أن تقرر هجرة المدينة ولو موقتاً.
والطبيعة لا تطلب الكثير. لا تطلب شيئاً أبداً.
توازن بين الكائنات. حياة نقية لم تدنس وملائكية بشرية لم تتعولم.
الآن. أكتب من على الشرفة المكسوة بالأغصان. أمامي قرد يراقب ما أفعل.
آمل ألا يكون هناك ثعبان يشاركنا اللحظة أيضاً. وإن يكن. فالثعابين، كأنها جاراتك. حتى الكوبرى تتبختر وهي تقطع الطريق أمامك... ليس لك أن تتأفف فأنت الدخيل على حديقتها. والثعابين لن تؤذي مثلما يؤذي الإنسان.
المكان خال من مخاوف المدينة حيث تخشى الحوادث. فقدان الوظيفة. السمنة. عمليات التجميل. تسديد فاتورة ماركة ثمينة. مشاكل عائلية. أسعار البورصة. يحيطك القلق وتجتر البسمة اجتراراً.
في الغابة السريلانكية الجميع يبتسم، لا أحد يشكو. فكيف يبتسمون؟
الحياة المتواضعة. معجزات الإنسان الغائبة. هجمات التاميل التي أنهكتهم، ويبتسمون.
المزارع يومئ بابتسامة والعاملة الطاعنة تكنس الفضلات ولا تشكو الحال بل تحييك وتضحك ملء شدقيها كأنها تملك العالم. والشابة المبتسمة بخجل ترتدي ملابس لا تحمل طابعا بآلاف الدولارات. ولا تنافس قريناتها بقدها المشدود، فلم يدخل المصممون شروطهم بعد على أجساد نساء الجزيرة.
هناك علاقة بين البساطة والبسمة. كيف يبتسمون؟
ألهذا لم تكتب عند بوابة المدينة عبارتنا العربية الآمرة (ابتسم فأنت في...) لأن البسمة موجودة في الأصل؟ في الجنة. محظوظة أن أعيش الجنة، بين أناس عملوا أو سيعملون في منطقتنا يوماً.
العاملات المنزليات المضطهدات قادمات من الجنة.
والعاملون الوافدون الذين يشار إليهم بكتلة الغباء ، قادمون من الجنة. حقيقتهم أنهم لم يتعرفوا بعد على مناخ وحيل الطاحونة الإنسانية الجميلة الوسخة المسماة (مدنية).
- ليس أجمل من دخول مكان لا تعرف به أحداً ولا أحد يعرفك. لا تربطك به أي علاقة. أرافق فقط روح صديق صافية. وهكذا تنقطع صلتي مع العالم العصري بحسنه وقبحه.
الأرض العذراء لطالما ألهبت مخيلة المستكشفين. وأرض سريلانكا ليست كبقية الجزر التي حولها الإنسان إلى مراكز تجارية سياحية مزيفة مثل عواصمه الكبرى.
سريلانكا باقية على طبيعتها الأولى
حالة استرخاء واسترداد لإنسان يحيا حراً دون عوازل وأبراج، يستنشق أوكسجيناً حقيقياً دون ملوثات وغازات، ترتدي ملابس بسيطة فجمالك سيظهر دون إضافات. تعود للتنزه والتأمل،
تسهر مرغماً لترى النجوم وإشارات مضيئة عجيبة تعبر السماء، وكيف تنام وأنت تذكر مشهد سمائك المحجوبة بغيوم التلوث والآهات؟
أسرح في المشهد الاستوائي
لا أتلقى أي اتصال يمكنه أن يذكرني بالحضارة، بهيئات حقوق الإنسان، بمدافعين كاذبين عن الإنسان. بنداءات عائلية لحضور التجمعات. بمعجبين.
لا شيء يساوي المناداة بالسلام
- بمعبد دامبولا على سفح جبل هناك كهف داخل صخرة مائلة بمعجزة، يرقد تمثال عمره ألفان ومئة عام للحكيم بوذا. سيشرح لنا الكاهن ما تتمناه الأكثرية هنا. أن تعيش الروح حياة واحدة مثل بوذا، وألا «تتقمص» من جديد لتعاقب أو لتكافأ. هذه هي مخاوف السعداء.
كاتبة وإعلامية سعودية
[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي