بلاغة القصة القصيرة جدا

قراءة / «الرقص تحت المطر» جديد القاص حسن البقالي

u063au0644u0627u0641 u0627u0644u0645u062cu0645u0648u0639u0629
غلاف المجموعة
تصغير
تكبير
| عبد الغني فوزي |
صدر أخيرا مجموعة قصصية تحت عنوان « الرقص تحت المطر « للقاص حسن البقالي، عن دار سندباد للنشر والإعلام في القاهرة المصرية. وهو مجنس تحت القصة القصيرة جدا، يمتد على مدار ثمانين صفحة من الحجم المتوسط، محتويا على ثمانية وخمسين نصا، منها على سبيل التمثيل: «دمى روسية، غروب، الموت من الضحك، حب متبادل، علاقة، عصفورات، الرقص تحت المطر، طفل من زماننا، حجرة النوم، رحلة، أغلال، كلمات، نار ومن الملاحظ هنا، أن صياغة العناوين يغلب عليها طابع التنكير، ويعني ذلك عدم التحديد والتعيين، وبالتالي فتح أفق الدلالة على مصراعيه. كما أن هذه العناوين على صلة وثيقة بقصصها باعتبارها تملأ الفراغات أحيانا، وطورا آخر ترخي بظلالها كعناصر مبكرة في النصوص.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن القصة القصيرة جدا لها علاقة قوية بالعنوان، الذي بإمكانه أن يساهم كلبنة أساسية في بنائها الشائك التكوين كبحيرة هادئة الملمح ومشتعلة الباطن والأعماق. طبعا القصة القصيرة جدا التي لا باطن لها، لا تستحق أن تعيش بين الاقامات السردية والتأملات القصصية الحكيمة. القاص حسن البقالي هنا يشتغل على نصوصه بدراية وخفة أدبية، تتحرك برشاقة بين جوانب العملية الإبداعية.
المتن القصصي
يغلب ظني أن القصة القصيرة جدا، لا تقول الموضوعات بشكل مستفيض. وهي بذلك لا تنفتح على المرجع بكيفية فجة ككاميرا تصويرية أو عين متلصصة؛ بل تقطع الأشياء وتنتقي التفاصيل، وتعيد بناء موضوعاتها على عنف رمزي يقضم عناصر السرد، ليتشكل هنا في مؤلف «الرقص تحت المطر» من جديد. من سمات هذا الأخير انتقاء الأفكار التي تتشكل أحداثا بين الواقع والمتخيل. وعليه يمكن البحث في كل قصة في هذه الأضمومة عن حدود الواقع والمتخيل. فكثيرة هي أشكال الحياة (واقع، تاريخ، فكر) التي يتم تقديمها كمفارقات تتأشكل في مربع القصة، لتتخذ أبعادا ودلالات تصول وتجول في أفق انتظار القارئ في محاورات ضمنية لنماذج مشتركة وأطر عليا. تقول المجموعة في قصة «حوار» ص28:
«على طاولة الحوار فتح الموضوع...
فتح على مصراعيه، فانسلت باسم الحوار جحافل لا نهائية من الشتائم ومشاعر العداء والقبضات والعصي والكلاب المدربة وشهوة القتل.
على طاولة الحوار
كسرت الطاولة
وقطعت أوصال الحوار».
القصص القصيرة جدا تسوق أسئلة وإشكالات الحياة والوجود، وهي تنفضها من الأردية والتفاصيل، لتبدو بارزة الأضلاع. وقد تكون الأسئلة الحارقة بمثابة مثيرات لتوليد تأملات أخرى قصيرة، وعلى قدر من الرمزية التي تعيد تذويت المرجعيات الأدبية والفلسفية، لتلتحق بلغة السرد والأدب.
لا يمكن أن نزعم أن القصة القصيرة جدا، لا تقول شيئا ماعدا نفسها؛ بل تحكي انطلاقا من الحدث. غير أن أحداثها، يتم انتقاؤها بدقة، لتمثل ملامح حياة. نعم، فيمكن أن نقرأ تفاصيل حياة أخرى في مجاميع قصصية قصيرة جدا؛ لكن بملامح وتقنيات بارقة ووامضة بين لعبة التجلي والغموض الموحي. هنا تعبر مجموعة «الرقص تحت المطر» عن الفقر، والخوف من الحرية، وحياة الظلال وما تحمله من سمات العزلة والغربة...
الحدث في القصة القصيرة جدا، يتم بناؤه عبر أفعال لها ترتيبها وتصعيدها الخاص. فيكون الوصف مركبا، ينبغي تجميعه ضمن إطارات زمانية ومكانية، تبدو بدورها كنقط وعلامات، تترنح ترنح الشخصية أو الفكرة أو الحالة... نكون هنا مع حسن البقالي ننطلق من فكرة متمظهرة بشكل مشهدي، تولد قضية أو مسألة عبر تحوير وتحويل.
بلاغة خاصة
كثيرا ما أتساءل حين أعرض لمؤلف إبداعي ما، عن التقنيات البلاغية الحاضرة في النص، عن المشترك منها والخاص؛ أي تلك البصمة والبسمة التي ينفرد بها المبدع لخلق تلك الرؤية التي يتعدد بها الأدب ويتجدد أيضا. عودة لهذه الكبسولات القصصية، يثيرك وأنت تتصفح هذا العمل الشكل البصري لهذه القصص الذي يخرق خطية النص الحكائي مع التركيز على توارد الأفعال والحالات عموديا. أفعال تخلق تصعيدا يذهب بك إلى عمق ما في المشكل نفسه وفي التأمل. فتبدو كل قصة إقامة سردية خاصة. كأن لكل قصة شكلها الذي لا ينفصل عن المحتوى في جدلية دائرية.
تتخلل أغلب القصص بياضات، يغلب ظني أنها سمة القصة القصيرة جدا في البناء، بياضات تدعو القارئ بكيفية ما، إلى المشاركة في البناء الدلالي للنص. كما أنها فراغات دالة، تقوم بتقضيم مكونات السرد نفسه، لخلق قصر سردي ينهض على الاختصار والتكثيف الذي يتحول بدوره إلى بلاغة خاصة، إنه البياض الذي يمكن اعتباره مفاصل، تخيط حواشي القصة القصيرة جدا. تقول قصة «حلم» في نفس المجموعة القصصية:
«كانت أحلامي ملونة ومترعة بالضياء.
الآن حلم واحد بالأبيض والأسود يرهق ليالي:
أراني في محراب عائم فوق الماء، أدعو الإله الرحيم أن يعيد إلي القدرة على الحلم».
القصة هنا، اشتغال على مدخلات تحيل على واقع، وما يتعلق به من سمات التردي وانحطاط القيم؛ وما يرتبط بذلك من تمثلات. لكن القاص يعتبرها- فيما يبدو لي- مدخلات أولية، للذهاب والنقر على رأس القضية. إنها قصص تنطلق من حالات خاصة، لتجذب العالم والكلي إليها عبر تحويل سردي؛ يقتضي التحوير والحذف. وبالتالي فالفكرة تطرح هنا بين الواقعي والمتخيل.
على سبيل الختم
إن الكتابة ضمن هذا النوع الأدبي، أعتبرها من أصعب الأنواع في الكتابة، الشيء الذي يقتضي تركيزا، ولياقة فكرية خاصة، تنعكس في التحبيك الشبيه بالنحت على الحجر. وبالتالي فكثيرة هي الخيوط التي تمتد لطريقة الحكي، فالسارد بمثابة أداة تخيط الحالات والمشاهد. ومتى كان السارد ثقيلا وعابرا دون تحريك خلفي حكيم، سقطت القصة في الكلام الجاري. وتحولت إلى ركام أحداث وأفعال دون مسار أو تمثل قصصي أو رهان. القاص حسن البقالي هنا، يتقدم على أرض هذه القصة بخطى وثيقة، من سمات ذاك المسير القصصي الاشتغال على مفارقات متعددة النوع، لكنها تتعلق بالإنسان من قريب أو من بعيد. وغالبا ما يتم تحويل تلك المفارقات بين الواقع والمتخيل، فتتلون، وتغدو مفارقات مكتظة؛ كأنها اختصار لحياة ووجود. وهو ما يخلق تعددا دلاليا، واستبطانا للنفسيات والوضعيات، استنادا على لغة لا تقول وتخبر، بل تلمح وتشير. فتتحول القصة هنا مع القاص حسن البقالي إلى حقل يتخلق باستمرار، كلما لمسته شهوة قراءة ما ولو منهجية.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي